لطالما أثارت الطائرات مخيلة الفلاسفة باعتبارها كبسولات تنزلق بركابها زمنياً ومكانياً لتمنحهم توقيتاً جديداً وحاجة مستجدة إلى معطف أو ثياب صيفية. وجود المطار في لبنان يضيف للطائرات بعداً فلسفياً مستجداً لأنها تنقل المسافرين من بلد لا مثيل له إلى بلاد تشبه بعضها كثيراً أو قليلاً.
ينهمك لبنان بمطاره. يبالغ في أخذه على محمل الجد. يعود الأمر ربما إلى افتخار اللبنانيين عموماً بوطنهم كجسر حضاري بين الشرق والغرب. إذاً، البلد بأسره جسر بين شيئين ومحطة عبور من نوع ما. لذلك ترى سكانه إما سائحين أو منتظرين لاتصال سفارة بشأن طلب هجرة. في ستينيات القرن الماضي كانت الدولة قوية وقادرة على صيانة مطار يمتد على 10452 كلم مربع. مع الوقت، ضعفت الدولة و «زمّت» لكنها بقيت ممراً تارة للمؤامرات وتارة للأوهام. لذلك كان عليها أن تبقى مطاراً. الآن، وصل الأمر إلى أن أصبح مطارنا بحجم مطار عادي. فسلّطنا عليه جلّ قدراتنا الأمنية واللوجستية. لذلك، بمقدور أي كان ان يقع على ما لا حصر له من المفارقات، ابتداء من ياقات رجال الأمن العام (المبالغ في نظافتها) وإن لم يتمكن الجهاز من جعل رجاله يبتسمون حتى هذه اللحظة، مروراً بافتقار سكان المطار إلى موهبة الرقص بين كهرباء «الدولة» وكهرباء «الإشتراك»، وانتهاء بامتناعنا الغريب عن رمي عبوات المياه البلاستيكية الفارغة على الأرض. لكن مع ذلك، لا ينبغي التقليل من قدرات «خارج» المطار على النفاذ إلى حرم المطار والتشابه بين أداء «الحمّالين» والأطفال الذين يمسحون زجاج السيارات خلال الازدحامات المرورية. كلاهما يمثل بطالة مقنعة ويؤدي بطالته بتهذيب ليس مجانياً.
في لحظة سياسية معينة، صار اسم المطار «مطار رفيق الحريري الدولي». ما حصل هو تفصيل في سياق الزحف المتواصل للسياسيين من أجل احتلال أسماء المنشآت والشوارع والمدارس. في الأمر انقلاب موصوف للعلاقة بين المدن والقائمين عليها. يجيء هؤلاء لخدمة مدن عمرها آلاف السنين، فتختار هي في المقابل أن تفلت أسماءها لمصلحتهم، أو يختار أهلها عنها من باب العرفان بالجميل أن يطرحوا أمومتها للشرائع كرمى لعيون مشيخة مشروع وطني إشكالي على أقل تقدير. يدخل هذا من باب إفراط الراهن في تغوله على حساب تاريخانية عمرها آلاف السنوات إلى الوراء ومثلها في المستقبل.
تقريباً، الدولة في لبنان هي مطارها. ويحتاج هذا المطار إلى أن يكون دولياً جداً حتى يتمكن من أداء مهامه المتمثلة نظرياً بالربط بين «دولة» ودول أخرى. لذلك، نحن دولة من مصاف الدول المتقدمة فقط بنظر مسافري الترانزيت الذين تقتصر تجربتهم اللبنانية على السوق الحرة.
في الآونة الأخيرة، تقهقرت الدولة وتراجعت حتى عن حرم المطار. غزت الفوضى وأكياس رقائق البطاطا زوايا المطار الكئيبة. لذلك كان على معايير النظافة والسلامة «العالمية» أن تتراجع إلى ما بعد حواجز الأمن العام .وإذا استمر الأمر على هذا المنوال، فسوف ينتهي الأمر بالمعايير إلى الاختباء خلف أبواب الطائرات المحكمة الإغلاق. حينها ستتوقف مهمة المطار المتمثلة بالسفر لمصلحة مهمة أكثر واقعية هي الإجلاء. في النهاية، لا يوجد مصطلح آخر لوصف حالة المغادرة من لبنان، حتى في أوقات العز حين كانت أكياس رقائق البطاط تحترم بوابات المطار الخارجية.