IMLebanon

من المحكمة الدولية  إلى المحكمة الإلهية  

الوزير مروان حمادة أمضى أياما في لاهاي، هي ليست كالأيام التقليدية التي يمضيها سياسي لبناني في أعماله السياسية والإجتماعية الروتينية. لقد أمضى أياما أدى خلالها مهمة تاريخية في قضية دخلت في طبيعتها وفي حجمها وتشعباتها ونتائجها المحلية والإقليمية، في إطار المحاكمات الدولية من خلال ما أطلق عليه عن حق، تسمية، جريمة العصر، التي كان ضحيتها الرئيس الشهيد رفيق الحريري، واستتبعت بعد حصولها المدوي في سماء المنطقة والعالم، جملة من الضحايا والشهداء، حتى تكدست على لبنان في قلبه وأطرافه وجوانبه كافة، جملة من المآسي والمخاطر الفادحة التي ما زالت تتكثف وتتقلب في درجات خطورتها إلى أن وصلت بنا في هذه الأيام إلى حدود الأخطار الداعشية التي بدأت تقرع أبواب المخاطر فمن شتى أنحاء المنطقة والعالم.

الوزير مروان حمادة، قام في لاهاي بدور تاريخي، تضاعفت أهميته بما كان له من علاقة لصيقة بالرئيس الشهيد، وبكونه أول من تلقوا أخطار المؤامرة التي انطلقت إلى الوجود والتنفيذ من خلاله وقد أطلقت عليه، تسمية «الشهيد الحي» بما طاوله من تفجير آثم كاد أن يودي بحياته، ونتيجة لفشل عملية اغتياله، كان للقضية بعض الرواسب من بعض من الحظ الحسن، إذ بقي حيا، وقدر له أن يكون على كرسي أداء الشهادة في قضية الرئيس الشهيد، بدلا من أن يكون في موضع الإستشهاد. ذلك الوزير الذي رافق الرئيس الحريري وعايش الأحداث الجسام إلى حد الإلتحام بها بروحه وجسده، ويدخل في إطار رواسب الحظ هذه، تلك الكفاءة المتميزة التي يتمتع بها مروان حمادة، السياسي المثقف بكم كبير ونوع متميز من العلم والخبرة والمعرفة المتعمقة بخبايا الأمور وأحجامها وحقائقها، وارتباطاتها بالأحداث والأوضاع الداخلية والخارجية، وصولا في ذلك إلى حد العلم اليقين، المستند إلى حقائق ووثائق وشهادات وإثباتات دامغة، تشكل دفعاً متميزا للمحكمة الدولية الناظرة في قضية العصر، والتي بذلت وما تزال، جهودا عظيمة الحجم والأثر، وصولا بما قامت به حتى الآن، وما نفذته من مراحل إعدادية، إلى المرحلة الجدية التي بدأت من خلال الوزير حمادة بسيل من الشهادات القريبة من مسرح الجريمة والمؤثرة بقوة ووضوح، على الوضع الإجرامي بمجمله، وبأركانه المقررة والآمرة والمدبرة والمنفذة.

وبذلك يكون الفصل الأول من فصول المحاكمة، وهو فصل البحث في إطار مسرح الجريمة عن النواحي الهامشية والتقنية قد انتهى وجاء مكانه دخوله في الجدّ، واقتراب حثيث من قلب الواقع الجرمي الذي هز لبنان وغيّر معالمه السياسية والأمنية.

لقد أدى الوزير حمادة دوره بنجاح فيما تعلق بإعادة إحياء ذاكرة اللبنانيين حول الظروف السياسية والمخابراتية التي أدت إلى حصول الجريمة بكل أبعادها الإقليمية المتمثلة بما كان يطلق عليه تسمية وضع اليد السورية على لبنان بالتزامن والتكافل والتضامن مع الجهات المرتبطة معها بعهود ومواثيق، عميقة الجذور، يمر الكثير منها بالرابط الإيراني الذي ما زال يدفع بها حتى الآن باتجاه « كعبة « النظام السوري، وركز الوزير حمادة على إصرار هذا النظام على اجتياح الإرادة السياسية والوطنية على ما أمكنه من امتدادات الدولة اللبنانية، محاولا باصرار وشراسة ضبط أوضاعها ووضع اليد على مواقع السلطة السياسية والشعبية فيها، بما يتلاءم مع مصالحه ومطامعه وطموحاته، مستعملا شتى أنواع البطش والتسلط، إلى حد وقف فيه سدا منيعاً ضد تنفيذ اتفاق الطائف، حتى إذا لم ينجح في إفشال انعقاده، فهو قد عقد العزم والسعي الحثيث إلى منع تنفيذه والإنقلاب عليه وتحويل نتائجه الى وضع سياسي جديد أمسك بكل خيوطه مثبّتا الوجود السوري في لبنان على مجمل الأرض اللبنانية، بما مكنه من الإمساك بكل مقاليد البلاد، فألغى وشرّد قياداتها وزعاماتها، وخلق زعامات وقادة جددا، كان المقياس في اختيارهم، مدى تجاوبهم وانتمائهم ورضوخهم إلى النظام السوري. هذه الفترة من تاريخ لبنان، انتهت بعملية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وتبعتها فترة لاحقة قسّمت البلاد إلى شطرين وإلى فئتين، شطر لبناني الأفكار والإنتماء عرف بثورة الأرز، ولاحقا بفريق 14 آذار، وشطر ذي انتماءات ايديولوجية عرفت بارتباطها مع النظامين السوري والإيراني، وعرفت لاحقا بفريق 8 آذار هذه الحقبة من الزمن مع لواحقها ومستتبعاتها تعرض إليها الوزير حمادة فاعادها إلى الاذهان التي غشاها شيء من غبار مرور الزمن فبدأ النسيان يطاولها في بعض الأذهان، وقد أعادتها إفاداته وشهاداته التي أدلى بها، إلى تلك الحقبة القاسية، كما أعادتني إلى بعض الإستذكارات الشخصية التي استسمح القارئ بذكرها، وهي عائدة للعامين 1996 و2005، وكان الرئيس الشهيد في العام 1996 قد ضمني إلى لائحته الإنتخابية لأكون نائبا في كتلته عن مدينة بيروت، وباشرت انتمائي لها رسميا وفعليا، إلى أن اكتشفت أن النظام السوري قد منعني من الإستمرار في الإنتماء إلى تلك اللائحة، مما أثار لدى الرئيس الشهيد غضبا مكبوتاً ما زلت أذكر آثاره على تلاميح وجهه، وقد سحبت من اللائحة من قبل من كان بيدهم السلطة والتسلط آنذاك، ولم أحاول العودة إلى النشاط الإنتخابي حتى مجيء العام 2005، وكانت العلاقات ما بين الرئيس الشهيد والنظام السوري قد توترت وتدهورت ووصلت إلى حدود الإنقطاع والخصومة الحادة، وفي غمرة هذه المرحلة السوداء التي انتهت باغتيال الرئيس الشهيد، استدعاني ليعلمني بأنني سأكون مجددا في إطار لائحته الإنتخابية للعام 2005 لولا أنه سبقنا جميعا نحو ملاقاة ربه، بعد أن تكرس وجوده بطلا شهيداً ضحى بحياته في سبيل وطنه السيد الحر المستقل وأدت شهادته إلى تخليص هذه الأرض المقدسة من براثن الغصب والطغيان.

إستذكر الجميع الوزير حمادة خلال الإيام القليلة الماضية وهم يتابعونه على الشاشات، فحرك فيهم جميعاً أحرّ وأغلى ذكريات ماض عزيز، مشفوعا بمشاعر الأسى والألم والحسرة على غياب إنسان لا حدود لتميزه، ولئن كان يحلو له أن يردد دائما، لا أحد أكبر من وطنه، فاننا نردد اليوم بأنه كان من دون أدنى شك، المواطن الأكبر في وطنه والأكثر إشعاعا والأشد أثرا، كان قائدا حافلا بمقاييس القيادة والزعامة والرّيادة التي رفعت رؤوس اللبنانيين مكللة بغار الإعتزاز والفخر. لقد اختارت الظروف المؤلمة، الوزير حمادة ليكون مدخلا لمرحلة جديدة من مراحل المحاكمة، وها هي اسماء كبيرة بدأت تتوالى إلى النشر في صحائف المحاكمة وفي مواقع الإتهام. قضية العصر كبرت كثيرا، وهي الآن في عهدة العدالة الدولية ومحكمتها، بل كبرت أكثر من ذلك بكثير، فهي اليوم، في عهدة الله عز وجل… في أعلى مواقع العدالة الإلهية.