كأيّ حدث لبنانيّ آخر، كان لخطاب الكراهية تجاه السوريّين حصّته من الانتخابات النيابية الأخيرة. فرُفعت في ساحة ساسين في الأشرفية يافطة انتخابية تحمل صورة بشير الجميّل وعبارة قديمة له تقول: «سيأتي يوم نقول فيه للسوري: اجمع أغراضك وكلّ ما سرقته وارحل». وقد سبق هذا «الإعلانَ الانتخابي» عرضُ أغنية ضمن برنامج فكاهي تبثّه قناة «الجديد» تقول كلماتها: «يا عين عالسوريين بأرض اللبنانيّة [اللبنانيين]، نحنا صرنا المغتربين وهنّي [هم] الأكثرية».
تجسّد هاتان الحادثتان التوافق غير المسبوق لدى الأطراف السياسية والإعلامية اللبنانية على رأي شبه موحّد وجامع، تجاه أزمة اللاجئين السوريين في لبنان. فالأغنية صادرة عن قناة ممانعة معادية لكلّ ما فعله بشير الجميّل في حياته، فيما اليافطة صادرة عن جو مسيحي غير ممانع يستعيد عبارات الحرب الأهلية لتوظيفها انتخابياً ضدّ اللاجئين السوريين. وقد أفضى هذا «التوافق» إلى هيمنة خطاب وسرديّة يصعب محاربتهما أو حتى التشكيك فيهما. فالسردية والخطاب المهيمنان عابران للأوضاع الاجتماعية والطوائف والمناطق والتوجهات السياسية وحتى الأجيال: السوريون عبء على لبنان واللبنانيين. استحوذوا على أشغالنا وبيوتنا وحقوقنا ومواردنا. وفي ضوء تلك السردية، يكاد المرء يصدق أننا كنا ننعم بعيشة كريمة قبل أن تهبط علينا أفواج من البشر الغرباء الذين انتزعوا لقمة عيشنا وحاصرونا وعادوا بنا إلى ذاكرة الحرب الأهلية المريرة.
لقد سبق لوزير الخارجية اللبناني حبران باسيل أن قال ذات مرّة: «نحن عنصريون في لبنانيتنا»، في تشجيع لتلك العنصريّة السائدة والمهيمنة والتي بات اللبنانيون يستسهلون التعبير عنها. فالوزير إذاً يريد لنا أن نستمدّ لبنانيّتنا من العنصرية. لكن، هل يمكن قلب معادلة باسيل رأساً على عقب، أي أن نسأل إن كانت التجربة اللبنانية تتيح لنا بديلاً معاكساً؟ فاللبنانيون يملكون تاريخاً طويلاً مع الهجرة، وتجربة طويلة مع الحرب واللجوء، وقد صاغت هذه التجربة إلى حدّ كبير هويّتنا اللبنانية. فهل يمكن أن نستمدّ منها مشروعاً وطنياً جامعاً لمناهضة العنصرية المتفشية؟
لمحاولة الجواب عن هذا السؤال، نستذكر قليلاً هذا التاريخ اللبناني الطويل مع الهجرة، وتحديداً المعاناة، بعيداً من التهليل لانتشار مغتربي لبنان في جميع أنحاء العالم.
تشير شتى التقديرات، وأهمها للاقتصادي بطرس لبكي، إلى أن ما يقارب المليون لبناني نزحوا في الحرب الأهلية اللبنانية، أي ما يساوي ٤٠ في المئة من الشعب اللبناني يومذاك، فيما نزح داخلياً أكثر من ٨٠٠ ألف عائلة في شتى المعارك، وخصوصاً حرب الجبل. وقد اختلف هذا النزوح القسري، أو الهجرة كما يفضّل اللبنانيون تسميتها، عن الهجرة التاريخية المعهودة التي تميزت بكونها ذات غالبية مسيحية، ومن طبقات ميسورة. ففي الحرب الأهلية، وخصوصاً ما بين ١٩٧٧ و١٩٧٨ وخلال الاجتياح الإسرائيلي العام ١٩٨٢ وفي حرب التحرير عام ١٩٨٩، نزح اللبنانيون من جميع المناطق والطوائف والفئات الاجتماعية. وقد تركّزت وجهة النزوح على أميركا وأستراليا واوروبا وكندا وافريقيا. وبسبب إقفال السفارات أيام الحرب، كانت قبرص أولى محطات الهروب (ولم يكن اللبنانيون آنذاك في حاجة إلى تأشيرة دخول إليها) أو دمشق. وبسبب امتلاء نيقوسيا، عاصمة قبرص، بالمهاجرين اللبنانيين، احتدّت العلاقة بينهم وبين القبارصة الذين عبّروا عن امتعاضهم من وجود اللبنانيين في كل مكان، في الفنادق والأماكن العامة. فقد حملت «نيويورك تايمز» في 1989 عنوان: «مع تفاقم المعارك اللبنانية، لاجئو الحرب يجتاحون قبرص». وفي مقال آخر، أمعنت في وصف معاناة اللبنانيين في قبرص حيث كانوا ينتظرون على أبواب السفارة الكندية مثلاً سنة كاملة للحصول على تأشيرة، وكم كانت كثيرة حالات اللجوء التي رُفضت: «يصطف المئات من اللبنانيين المذعورين يومياً أمام السفارات الأجنبية في دمشق أو نيقوسيا، على أمل الحصول على تأشيرات دخول. وفي معظم الأوقات، يتم رفضها. لقد أصبحت آفة الإرهاب تطاردهم. الحكومات الأجنبية مترددة في منح تأشيرات كثيرة خوفاً من ترك الإرهابيين يدخلون الى أراضيهم». فقد دفع اللبنانيون ثمن خوف الدول الغربية من استقبال «إرهابيين»، وهو تنميط وترابط معهودان لطالما واكبا تاريخياً اللاجئين من جميع أنحاء العالم.
أما هجرة اللبنانيين إلى أستراليا في السبعينات، فبقيت محط نقاش بعد ٣٠ عاماً على حصولها. ففي ٢٠٠٧، نشر موقع «ذا أُستراليان» [الأسترالي] مستندات من الأرشيف الوطني الأسترالي حول قرار حكومة فريزر آنذاك تسهيل عمليات اللجوء اللبناني في ١٩٧٦، ممّا أدّى إلى انهيار موقت لمعايير الهجرة اللازمة مع لجوء كثير من اللبنانيين: إنهم «ذوو خبرة محدودة، وأميّون، وأصحاب شخصيات مشكوك في أمرها، ولا يتمتعون بالنظافة الشخصية اللازمة». ويجري الربط في الصحافة الأسترالية بين هجرة اللبنانيين في ١٩٧٦ والتوترات العنصرية التي شهدتها مدينة سيدني في 2006. أضف الى ذلك شتى التقارير الصحافية الاسترالية التي كانت تستفيض في الحديث عن معاناة اللبنانيين مع أزمة الهوية والاندماج، وعن «تخلف اللبنانيين مقارنةً بالمهاجرين الآخرين، بسبب مستوى علمهم المنخفض، وانعزالهم في بؤر فقر، ووجود فكرة مسبقة ورجعية عن الاختلاط بالمرأة عند الغالبية العظمى منهم».
وفي الجهة الأخرى من العالم، أدلى مسؤول لبناني في برلين بتصريح لقناة «الجزيرة» في ٢٠٠٧ أشار فيه إلى معاناة اللبنانيين مع التنميط والظلم في الإعلام الألماني الذي يدأب على تصويرهم كأفراد غير منتجين يعيشون على إعانات الدولة الألمانية، ويعانون في الحصول على إقامات وفرص عمل وتعليم. وقد حاول تصويب هذه الصورة النمطية بالتركيز على شرائح عدة من اللبنانيين فاعلة ومنتجة في الاقتصاد الألماني. واللافت أنه استعان بتجربة الدول الإسكندنافية التي ساهمت، في نظره، بنجاح الجالية اللبنانية في الاندماج في مجتمعاتها لأنها لم تتعامل بتنميط وعنصرية مع مهاجريها، كما الحال في المانيا. أضف إلى ذلك شتى التقارير الصحافية الالمانية التي اتهمت المجتمعات اللبنانية بأنها تتّسم بالعنف والفشل في الاندماج، وكان ذلك بعد القبض على لبنانيين حاولوا تفجير قنبلة في محطة قطارات العام ٢٠٠٧.
وعلى غرار التنميط والعنصرية اللذين عانى منهما اللبنانيون وما زالوا، نعيد اليوم إنتاج الصورة النمطية والعنصرية ذاتها تجاه السوريين، كحال الرجل المعنف الذي يقوم بتعنيف أولاده. وفيما يجري التذرع بأرقام اللاجئين السوريين الضخمة لتبرير العنصرية ضدّهم، فإنّ هذه الأرقام نفسها ليست إلا مؤشراً إلى هول المعاناة وضرورة خوض معركة حقوق اللاجئين بغض النظر عن الارقام، بل ربّما بسبب تلك الأرقام بالذات.
ليس القصد هنا توحيد اللبنانيين حول خطاب إنساني متعاطف مع السوريين، استناداً إلى حالة تشبه ماضيهم، بل الإقرار بواقع لطالما استفاد منه اللبنانيون، ألا وهو أن الخطاب الإنساني والمتعاطف ليس إلا دفعة معنوية في ظل غياب الحقوق. فتفكيك خطاب كهذا ومواجهته يكمنان في طرح خطاب مضاد مستوحى من معركة اللبنانيين في المطالبة والحصول على حقوقهم في البلاد التي انتشروا فيها. السؤال الأهم إذاً هو: هل كان لعشرات آلاف اللبنانيين في تلك الدول أن يطمحوا أو يحققوا فرص عيش كريم من دون الحصول على حقوقهم؟ ألم تكن حقوقهم بمثابة صمّام أمان في مواجهة العنصرية؟
لا وجود لأرقام دقيقة حول اللبنانيين الذين عادوا إلى لبنان بعد الحرب. ربما عاد بعض المهاجرين، فيما توطّن بعضهم الآخر وحصل على حقوقه ولم يعد، وهذا البعض نفتخر به اليوم كعضو فاعل ذي هوية لبنانية منتشر في جميع القارات. لكنْ، من المهمّ أن نتذكّر أن هؤلاء اللبنانيين لم يكونوا مطالَبين بالعودة الفورية إثر انتهاء الحرب في ١٩٩٠. فعلى رغم أن لبنان أصبح «آمناً»، فإن قرار العودة بقي مرتبطاً بتأمين حد أدنى من فرص العمل والعيش الكريم. والأهم أن قرار العودة كان خياراً وليس مفروضاً، وذلك بسبب الحقوق إيّاها التي تحوّل اللاجئ من حالة إلى شخص حرّ في قراره وقراراته.