هناك مستوى غائب في النقاش السياسي اليوم، هذا إن كان ثمة نقاش سياسي اليوم، ولم يكن غائباً هو الآخر.
المستوى النقاشي الغائب: هو المستوى “الضائع” بين النظرة التي ترى أنه طالما لم تعالج القضايا الاستراتيجية الأساسية المستعصية، وفي طليعتها موضوع سلاح “حزب الله” أو موضوع “إلغاء الطائفية السياسية”، فلا سبيل لمعالجة القضايا الفرعية والجزئية، وبين النظرة التي تدعو بشكل أو بآخر الى وضع القضايا المستعصية بين مزدوجين، معلّقة هكذا، في حالة “سبات الدب الشتوي” (الهيبرنيشن أو “الإشتاء”) الى أن يحين ربيع جديد، ولو بعد عقود.
المستوى الضائع في النقاش اليوم، بل منذ فترة صار يمكن عدّها بالسنوات، هو المستوى المتخطي للحظة الآنية، وغير المستلب بلحظة المفاصلة النهائية الختامية الشاملة والمآلات الأخيرة للأزمة اللبنانية، إنه المستوى المنطلق من مفارقة ضمور العقد الاجتماعي بين اللبنانيين أكثر فأكثر، في لحظة غادرت الاصطفافات الجبهوية الحادّة الى حدّ بعيد أكثر منها، في لحظة هذه الاصطفافات و”انقسام الساحات” واستدعاء الجماهير في خطين متعارضين، كما كانت الحال في آذار 2005.
ضمور العقد الاجتماعي بفعل الكبوات والخيبات ومناخات الجمود واشكال العزوف عن السياسة وانتشار اجواء انعدام الثقة، أعلى منه اليوم من فترة “المواجهة الحيوية” بين 8 و14 آذار. في نفس الوقت، مستوى الاستقرار السياسي والأمني يبدو أرفع كعباً اليوم، على هشاشة العمق الذي يستند إليه، لكنه استقرار نسبي واضح إذا ما قورن بحال سنوات التفجير الماضية، أو قورن بالحروب المستعرة في الاقليم. استقرار نسبي بشروط انعدام التوازن في اللعبة الداخلية، مفهوم، لكن ايضاً، على حساب المزيد من ضمور بقايا العقد الاجتماعي، ومعه تصدّع الإطار المعياري القيمي الذي تتغذّى منه مرجعية الدستور ومرجعية القانون ككل في أي مجتمع.
هذا المستوى الضائع هو المستوى الذي يفترض به الوصل بين الأسئلة المفرطة في المحلية واليومية، وبين التصورات المفرطة بالاستهانة بالحيّز اليومي. ليس هو، مع ذلك، بمستوى وسيط فحسب. انه مستوى النقاش الذي “يسيّس” المستويين الآخرَين. وطالما بقي مستوى النقاش حول ضمور العقد الاجتماعي مغفلاً، أو ضائعاً، أو هامشياً، طالما بقيت خطابات التركيز على “الحيّز اليومي” أشبه بتعويذات مضجرة، تغترب أكثر فأكثر عن الواقع اليومي نفسه لعيش الناس، وهمومهم وهواجسهم ومصالحهم وتطلعاتهم. مع الانقطاع عن النقاش في أزمة التركيبة السياسية ككل، وما تعكسه من أزمة أعمق في أسس التعاقد والتفاهم والتداول والتضامن والتماسك في هذا البلد، يظل “الخوض في المستعصيات”، في موضوعات سلاح “حزب الله” والاستراتيجية الدفاعية ومن يقرّر حال الحرب وحال السلم وكيفية صياغة سياسة خارجية لبنانية مستقلة وفاعلة، وكيفية المقاربة “النهائية” لموضوع الطائفية السياسية، موضوعات مؤجلة من الباب، وعائدة بأطيافها وأشباحها من النافذة، وموضوعات يشعر كثير من الناس اليوم، بأنهم فقدوا القدرة على التأثير فيها، كما لو كان يمكن بالفعل وضعها في الخوابي، وهذا مستحيل.
“شطب” هذا المستوى من النقاش السياسي، الذي يصل بين النقاش في “الحيّز اليومي” والنقاش في “المآلات النهائية” للأزمات اللبنانية، يؤدي في واقع الحال إلى ضمور النقاش السياسي نفسه. اليوم مثلاً، هناك الكثير من المقولات الجاهزة والانفعالات المتفاوتة، بين التكدّر والغمّ والنكد، وبين التمرّن على الايجابية والتقاط البادرات الحسنة، لكن هناك القليل جداً من النقاش السياسي، قبل الانتخابات، إبّانها، وبعدها بعد أكثر! السؤال يصبح عندها عن نوع الحدث، أو تسلسل الأحداث، التي من شأنها إعادة تأهيل النقاش السياسي لاستعادة حيويته.