فصل من مذكّرات الرئيس إيلي سالم: الفرص الضائعة
يوم أظهر الأسد أنيابه لشولتز… وهكذا “مطّ” تويني الترجمة و “حرق دينها”
كان لا بد، بعد أربعين عاماً على الأحداث والتحوّلات والمنعطفات الكبيرة التي شهدها لبنان وسوريا في الآونة الأخيرة، من أن تَظهرَ حقائق كثيرة طمستها المعادلات التي حكمت البلد، بعدما أُسقط “اتّفاق جلاء القوات الإسرائيلية من لبنان”، رغم إقراره بشبه إجماع، ومُسخ اسمه إلى “اتّفاق 17 أيار”، وخُوِّن مجلس النواب ومجلس الوزراء وكبار رجالات البلد.
يسرد نائب رئيس الحكومة ووزير الخارجية سابقاً إيلي سالم، المنحى الذي اتخذته الحياة السياسية حتى نهاية عهد الرئيس أمين الجميِّل، والمعادلات التي حالت دون إقرار “مبادئ لحل الأزمة اللبنانية” والتي كان يمكن أن تنهي الحرب اللبنانية الطويلة قبل سنتين من نهايتها.
تنشر “نداء الوطن” مقتطفاً من هذه المذكّرات التي كتبها سالم بالاشتراك مع الزميل أنطوان سعد، ونشرتها “دار سائر المشرق” في كتاب بعنوان: “الفرص الضائعة”.
عاد شولتز إلى إسرائيل، فيما انصرفتُ من جهتي إلى جولة واسعة على الشخصيات السياسية اللبنانية لإطلاعها على مضمون الاتّفاق والحصول على نصائحها… ولمست أن هنالك شبه إجماع على تأييد الاتّفاق، وتقديراً للدور الأميركي في عملية الوصول إليه، واحتراماً للفريق الذي قام بالتفاوض، حتى بين أشخاص اضطروا إلى الانقلاب على الاتّفاق، وانتقاده بقوة، في وقت لاحق، بنتيجة ظروفهم المعروفة مثل الرئيس رشيد كرامي الذي كان حثّني على الاستفادة من الدور الأميركي للمضي قدماً والتوصل إلى اتّفاق يخرج الجيشَين الإسرائيلي والسوري، لأن “لا شيء يضمن مستقبلًا خروج الجيش السوري”…
نحن معك لا تقلق
مساء السبت، في السابع من أيار، تلقّى الرئيس الجميّل اتّصالاً من الرئيس رونالد ريغن بشأن المفاوضات الدائرة مع إسرائيل والاتّفاق المرتقب. وأعلن الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض، لاري سبيكس، أنّ الرئيس الأميركي أبلغ نظيره اللبناني “بأننا نعمل على إقناع السوريين بالموافقة على سحب قواتهم، وأعرب عن أمله في أن يوافق مجلس الوزراء والبرلمان (في لبنان) قريباً على مشروع الاتّفاق”. كما أكَّد ريغن أنه وشولتز، الموجود آنذاك في دمشق، سيقومان بكلّ ما في وسعهما لإقناع سوريا بالموافقة عليه، مضيفاً بأنه يعتقد بقدرة شولتز على إقناعها. ودعا الجميّل إلى زيارة العاصمة الأميركية بعد توقيع الاتّفاقية “لكي نحتفل بنصرنا” وأنهى المكالمة بالقول: “ليباركك الرب، حضرة الرئيس. نحن معك، لا تقلق”.
انتشى الرئيس الجميّل. واعتبر مضمون المكالمة الهاتفية أمراً بالغ الأهمية… لم يكن من السهل عليّ أن أخفّف من حماسة الرئيس. فاستشهدت بهاملت الذي كان يقرأ كتاباً، وسأله بولونيوس: “ماذا تقرأ سيد هاملت؟ فأجابه “كلمات، كلمات، كلمات”…
اتصال عاجل
على الرغم من أنه كان لدينا موعد محدّد في قصر بعبدا مع شولتز في اليوم التالي، لم يستطع وزير الخارجية الأميركية الانتظار 24 ساعة، لإبلاغي انطباعه. فما إن خرج من اجتماعه الطويل مع الرئيس السوري، حتى عاجلني باتّصال هاتفي. ولم أكد أمسك بالسماعة لتلقّي المخابرة، حتى بادرني بالسؤال بصوت عالٍ:
– ما اسم ذاك الشاعر اللعين الذي أخبرتني عنه وتحدّث عن الأسد وأنيابه؟
– المتنبي.
– يا إلهي، كم هو محق!
بكلمتَين موجزتَين، وضعني في أجواء اجتماعه الصعب مع حافظ الأسد، لكنني، رغم اعترافه بأنه لم يحقّق النتيجة المرجوة من لقائه مع الرئيس السوري، لم ألمس أنّ التشاؤم قد تمكّن منه…
في القصر الجمهوري كنتُ، والرئيسان الجميّل والوزّان، ننتظر شولتز بفارغ الصبر. حضر رأس الدبلوماسية الأميركية وأخبرنا أن الإسرائيليين وافقوا على الاتّفاق، رغم معارضة أرييل شارون وبعض قادة المعارضة في إسرائيل. ثم أضاف أن جميع القادة العرب، باستثناء الرئيس الأسد والرئيس الليبي معمّر القذّافي، يؤيّدون الموقف اللبناني. وذكر أنّ الملك حسين سيوفد قريباً جدّاً مبعوثاً خاصاً إلى لبنان للتعبير عن دعمه، ويحذّر من طرح نصّ الاتّفاق للمناقشة في جامعة الدول العربية. وعن لقائه بالرئيس السوري قال شولتز إنّ الأخير يعارض الاتّفاق وفق تفسيره له، ولكنه لم يوصد الباب بوجهه.
ونقل عن الأسد قلقه بشأن أمن سوريا، ولاسيّما الإجراءات التي ستتّخذ في لبنان على مقربة من الحدود السورية. وأردف: “مثل ذلك القلق أمر مشروع، وقابل للبحث مع الإسرائيليين”. واستخلص شولتز أن منطقة الشرق الأوسط عموماً تحتاج إلى عملية تسوية جديدة تشمل سوريا. ونقل إلينا موقف الملك فهد الداعم للبنان ولِما يتّفق عليه اللبنانيون، ونصيحته بانتهاج أسلوب يحفظ الإجماع اللبناني والعربي. واستنتج من لقائه بالعاهل السعودي أنه لن يتّخذ موقفاً سلبيّاً من سوريا، وأنّ عدم الدعم العلني للاتّفاق، بمثابة تلميح إلى المسافة التي قد يتّخذها القادة العرب منه، إذا عارض الرئيس الأسد الاتّفاق.
غسّان “بمطّها”
بعدما أنهى وزير الخارجية الأميركية عرضه لمحصّلة جولته العربية، علّق الرئيس الوزّان بصوت عالٍ: “ألم نقل لك إنّ لمخاوفنا ما يبرّرها؟” وفيما غلبت على الحضور حالة من النشوة والارتياح، طلب الرئيس الوزّان أن يتكلّم ولم يكن مرتاحاً، وسألني أن أترجم كلامه إلى الإنكليزيّة، فأجبتُه: “يا دولة الرئيس، أنا متزوّج أميركيّة وأمضيتُ كلّ حياتي في الترجمة من العربيّة إلى الإنكليزيّة، فارفعْ هذه الكأس عنّي واعفِني، ولكن يمكنك أن تطلب من غسّان تويني أن يترجم”. فأجابني بصوت منخفض وبلهجة بيروتية “غسّان بمطّها”. “مجبراً أخاك”، وقف الوزّان ويداه وراء ظهره ووجهه متجهّم وخطب: “هذا ليس يوماً سعيداً بالنسبة إليّ، ما كنتُ أودّ أن نتفاوض مع إسرائيل. أمّا من أجل مصلحة وطني، فأعطي الأولويّة للوطن، وليس لي شخصيّاً”. هنا وقف غسّان وأخذ يترجم، وأخذ يتوسّع، والوزّان لا يعرف ماذا يحدث وما هو المحتوى، فالتفتَ إليّ سائلاً:
– عمبمطّها؟
– مطّها وحرق دينها، ولكن بقي ضمن روحيّتك.
– لا إله إلاّ الله، قالها وهو يهزّ برأسه.
…كان شولتز، في الواقع، يأمل بأن يشكّل الاتفاق اللبناني – الإسرائيلي قمّة نجاحه الدبلوماسي، وممّا لا شكّ فيه أنّه بذل أقصى جهده لإنجاحه. لذلك انزعج كثيراً بعد اجتماعه الفاشل مع الأسد، وطلب مني أن نجتمع وحدنا. فعقدت معه اجتماعاً سريّاً وشخصيّاً، لأراجع معه كلّ ما عنده. وبعد تردّدٍ شديدٍ من قِبَله، أخبرني أنّه يفكّر بأن يضغط على الأسد عسكرياً، عبر تحريك قوات حلف شمالي الأطلسي NATO ضدّه، من خلال حشد الجيش التركي على الحدود مع سوريا. فانتفضتُ بسرعة رافضاً حتّى التفكير في هذا الاتّجاه… وأضفتُ: “إن أُعلنَت من قبلكم سأرفضها علناً”؛ قلتُ كلّ هذا، وأنا واثق من أنّ موقف الجميّل والوزّان، هو ما عبَّرت عنه دون تشاور مسبق مع أيّ منهما.
في العاشر من أيار، قرن الملك حسين وعده الذي نقله إلينا جورج شولتز بالفعل، وأرسل إلينا وزير خارجيته مروان القاسم، الذي سلّم الرئيس الجميِّل رسالة من العاهل الأردني. وصرّح أن بلاده تؤيّد أي اتّفاق يؤدّي إلى انسحاب القوات الإسرائيلية من لبنان، ودعا الدول العربية إلى عدم إعطاء أي مبرّر لبقاء أية جيوش على الأراضي اللبنانية. فيما أعلن الرئيس الليبي معمّر القذافي أنه سيقطع علاقات بلاده مع لبنان إذا وقّع اتّفاقاً مع إسرائيل، واتّهمنا بأننا بعنا استقلال لبنان. أما الرئيس المصري حسني مبارك فقال، في الثاني عشر من أيار، إنّ الشعب اللبناني “هو صاحب القول الفصل في كلّ ما يتعلّق بأرضه وأمنه وحقوقه”…