IMLebanon

من الميثاق الوطني إلى الميثاقية

جاء الميثاق الوطني غير المكتوب متلازماً مع استقلال لبنان في 1943. فلولا الميثاق لما كان الاستقلال ممكناً في تلك المرحلة، والعكس صحيح. هذا الترابط العضوي كان جسر العبور من الانتداب الى الاستقلال. ارتبط الميثاق بلاءين شهيرين، لا للشرق ولا للغرب. المقصود بالغرب الانتداب الفرنسي وبالشرق مشاريع الاندماج في كيانات أوسع، سوريا تحديداً.

وكان سبق ميثاق 1943 الذي انبثق من خطاب رياض الصلح، رئيس حكومة الاستقلال، موقف عبّر عنه كاظم الصلح، رداً على مقررات «مؤتمر الساحل» في 1936 الداعية الى «الاتحاد» مع سوريا ورفض الأمر الواقع الذي فرضه الانتداب. وجاءت عروبة «الوجه» تسوية عملية لـ«مشكلة الاتحاد والانفصال» في إطار عروبة تلك الحقبة.

تعطّل الميثاق الوطني في الممارسة، لاسيما في الازمات الحادة ذات الأبعاد الإقليمية. سعت الدولة في لبنان لإبعاد نفسها عن صراعات المحاور الإقليمية وانقسمت وتعطل قرارها. فالذي تغير بعد الاستقلال ليس لبنان بل المحيط الإقليمي، بعد قيام إسرائيل اثر حرب 1948 وبعد التحولات التي اعطت العروبة اندفاعة جديدة مع الرئيس جمال عبد الناصر وحزب البعث. هكذا استعادت الوحدة العربية زخمها ومعها تحرير فلسطين من الاحتلال، قضية عربية جامعة.

تصدّع الميثاق في لبنان، مثلما تصدّعت المواثيق الداخلية في العلاقة بين الدولة والمجتمع في العالم العربي. في لبنان كان «الانقلاب» سياسياً وفي بعض دول المنطقة عسكرياً. في لبنان طوائف وفي دول المحيط عشائر. في مصر دولة مركزية في مجتمع متجانس، وفي دول المنطقة مجتمعات متلاصقة وأنظمة حكم متراصة. خطاب الدولة وموقفها واحد في دول الجوار العربي ومجتمعاتها، بينما للدولة في لبنان موقف وللجماعات السياسية والطائفية وسواها مواقف مختلفة. هذا التباين كان جلياً في ازمة 1958 ولاحقاً عشية اندلاع الحرب في 1975.

في الممارسة السياسية، وفي ضوء المتغيرات الداخلية والإقليمية خلال عقود ثلاثة، تبدلت مفاهيم ميثاق 1943 لأسباب متنوعة. التحوّل الداخلي الأبرز في لبنان ما قبل الحرب تمثّل بالحركة الهادفة التي أطلقها الإمام موسى الصدر وأثمرت إنشاء المجلس الشيعي الاعلى في أواخر الستينيات. وجاءت الانطلاقة الأشمل والأكثر تأثيراً مع «حركة المحرومين» التي بدّلت معادلة السلطة والنفوذ داخل الطائفة الشيعية، وتداخلت مع الحراك العام في البلاد المرتبط بالوجود الفلسطيني المسلح والاعتداءات الإسرائيلية والانقسام الداخلي حول الدولة والنظام والسياسة الخارجية.

في حروب لبنان سقط الميثاق ومعه الدولة. محاولة ترميم جاءت مع اتفاق الطائف لتضع الميثاقية في صلب الدستور. هكذا بدت الميثاقية وريثة الميثاق الوطني لاسيما في بعده الداخلي. أما البعد الخارجي للميثاق المرتبط بالسيادة فتم تغييبه في زمن الوصاية بغطاء اقليمي ودولي، وباتت سوريا صاحبة القرار الحاسم في شؤون الحكم.

بعد العام 1990 أصبحت للميثاقية وظيفة محددة في مقدمة الدستور المعدل الذي نص بأن «لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك». ميثاق ما بعد الحرب تلازم مع عيش مشترك بين مكوّنات المجتمع بحيث تسقط شرعية السلطة في حال انتُهكت الميثاقية، بما تعني من شراكة متوازنة للجماعات التي يتشكّل منها المجتمع اللبناني، لاسيما بنظر القوى السياسية التي تحظى بتمثيل وازن في بيئتها المجتمعية المباشرة.

وجاءت ممارسة السلطة بعد الحرب لتضرب ركائز العيش المشترك، صيغة ونظام حكم وسيادة. واستشرى الخلل، خصوصاً في الوسط المسيحي، حيث جاء التمثيل منتقصاً والاستهداف مباشراً للقوى السياسية الأكثر تمثيلاً. بعد العام 2005 وعلى اثر استقالة الوزراء الشيعة من حكومة الرئيس السنيورة، اخذت الميثاقية بعداً جديداً تمثل بالتوافقية في اتخاذ القرار.

أزمة الانتخابات الرئاسية الأخيرة أنتجت أبعاداً إضافية للشراكة الميثاقية. فبعد انتخاب رؤساء جمهورية منذ انتهاء الحرب لا قاعدة شعبية لهم وبقرار من الخارج، وبعد المصالحة التي تمّت بين التيار الوطني الحر و «القوات اللبنانية»، انتفت الذرائع التي ساقها البعض لاستبعاد العماد ميشال عون، المرشح الرئاسي الأبرز، قبل الشغور وبعده.

إنها «الحالة العونية» التي استطاعت أن تجمع الأضداد في زمن الحروب المشتعلة في المحيط الإقليمي في مشروع وطني جامع لا إقصاء فيه ولا استهداف… وإن غداً لناظره قريب.