خلال غضون أسبوع تقريباً تمّ إعلان إنشاء ثلاث مناطق خفض توتر في سوريا، واحدة في جنوب غرب سوريا، والثانية في الغوطة الشرقية، والثالثة في شمال حمص. وبحسب معلومات خاصة من كواليس المفاوضات التي جرت اخيراً لإنشاء هذه المناطق، يتبيّن انّ هناك قراراً اميركياً وروسياً، بتعميم نموذجها على كل المناطق السورية التي توجد فيها تماسات عسكرية ساخنة بين النظام السوري والمعارضات المسلحة.
في التفاصيل المُرشدة الى مسار نشوء هذا التوجه، تكشف «الجمهورية» عن ابرز وقائع البحث الدولي الذي جرى في الكواليس التي ناقشت ترسيم هذه المناطق وتحديد آليات جديدة لمراقبة وقف النار فيها، ودور موسكو في داخلها، اضافة الى التحديدات السياسية التي وضعت للفترة الزمنية لاستمرار العمل بهذه المناطق، وما هي الضمانات التي أقرّت لمنع تحوّلها بيئات نفوذ اقليمي ودولي او تفضي الى تقسيم سوريا.
أثمرَ التفاوض عن تحديد «مواصفات سياسية» لمناطق خفض التوتر التي ستكرّ سبحتها الواحدة بعد الاخرى في كل المناطق السورية التي تشهد تماسات ساخنة بين المعارضة والنظام.
وركّز قسم مهم من هذه المواصفات على إيضاح إشكالية طُرِحَت بإلحاح، وهي الخشية من أنّ «مناطق الهدن» الجديدة، ستتعرض للانهيار كما حصل سابقاً مع «الهدن» التي نشأت من توافق لافروف – كيري او عن اجتماعات استانا.
تتألف هذه المواصفات الضامنة الجديدة، لثبيت وقف نار دائم في مناطق خفض التوتر، من الآتي:
ـ أولاً، في المرّات السابقة كانت آليّات التثبّت من وقف إطلاق النار تتمّ من خلال «آليّة إرسال تقارير من الدولة الضامنة للمعارضة عن اي خرق لوقف النار يرتكبه النظام وحلفاؤه، في مقابل انّ الدولة الضامنة للنظام تفعل الأمر نفسه». والذي حصل أنّ هذه الآليّة تاهت آنذاك في لعبة تبادل التهم بين الطرفين، وسقط وقف إطلاق النار.
أمّا الآلية الجديدة، فتقترح تشكيل غرفة عمليات تشترك فيها الاطراف الضامنة وتكون مزوّدة آلات رصد حديثة للخروقات، تستطيع فعلاً تحديد الجهة الخارقة، فيما تعالج قوات الشرطة الروسية التي تنتشر تحديداً في النقاط المرشحة لأن يحصل فيها خرق النار، أيّ خرق عند حصوله، وذلك بعد ورود إشعار في شأنه من غرفة عمليات الدول الضامنة.
والجديد المهم في هذا الأمر يتعدى أن الآليّة المعتمدة اكثر فعالية تقنيّاً، ليصل الى نطاق انّ غرفة العمليات المُشار اليها، سيوجد فيها الروس والاميركيون والاردنيون، ومهمتها ترشيد قوة الشرطة الروسية الموجودة على الارض، والتعاون معها.
وبرز تقدير خلال التفاوض على هذه النقطة، يفيد أنّ «غرفة عمليات مراقبة خفض التوتر في جنوب غرب سوريا»، هي «غرفة موك معدّلة».
فالأخيرة كان مكانها الاردن، وتتشكّل من اميركيين وأردنيين ودول من اصدقاء الشعب السوري، وهدفها دعم المعارضات المعتدلة السورية. امّا الغرفة الجديدة، فسيظل مكانها الأردن، وستظلّ واشنطن وعمان فيها، وستحافظ على وجود الفصائل المعتدلة داخل منطقة خفض التوتر.
امّا جديدها فيتمثّل بإضافة وجود لروسيا الى جانب الاردن واميركا، في مقابل إنهاء وجود دول «أصدقاء الشعب السوري» الأخرى فيها.
وحول النقطة الاخيرة، برزت إشكالية استبعاد كل من ايران وتركيا، من مناطق خفض التوتر الجديدة التي تعتبر جنوب غرب سوريا نموذجاً لها. المعارضة السورية رأت في هذا التطور أنّ التوجّه الجديد الى إنشاء «مناطق الهدن»، يلبّي شرطها برفض «ضمان» ايران.
وركنت في ذلك الى معلومات نقلها اليها رياض حجاب منسّق «الهيئة العليا للمفاوضات» في المعارضة السورية، عن لسان مسؤولين اميركيين، مفادها انّ ادارة ترامب ليس لديها حتى الآن استراتيجية لحل الازمة السورية، بل أولويات في سوريا والمنطقة، وهي مكافحة الارهاب، وإنشاء مناطق خفض توتر في كل المناطق السورية الساخنة، تُفضي الى تقليص نفوذ ايران على الأرض في سوريا، ولاحقاً، ومن دون تحديد أي سقف زمني، يتمّ البحث في العملية السياسية لإنهاء الأزمة السورية.
من جانبها، لم تعتبر موسكو هذا التطور استثناءً لدور تركيا وإيران من مسار مناطق خفض التوتر، لأنها في الأساس ترى أنّ إنشاء هذه المناطق هو استكمال لمسار أستانا الذي كانت طهران وانقرة شريكتين فيه، ما يعني انّ دورهما محفوظ في مستقبله.
خلال نقاش خريطة تحديد منطقة خفض التوتر في غرب جنوب سوريا، برز اتجاه لجعلها ملائمة للتوازن الاقليمي في سوريا. ولذلك فإنّ نسختها الاولى اشتملت على اقتراح بتزامن إنشائها مع إنشاء منطقة في شمال سوريا (ادلب او بداية ريفها)، ما يمنح أنقرة دوراً ضامناً.
لكن نقاش هذه الصيغة اصطدم بتباين الاجوبة عن الطريقة الفضلى لإخراج «جبهة النصرة» من ادلب ومحافظتها: هل عبر إعلان منطقة خفض توتر فيها، عدا «النصرة»، وهي طريقة جُرِّبَت سابقاً وفشلت؟ أم يتم بداية إخراج «النصرة» منها، ليُصار الى إعلانها لاحقاً منطقة خفض توتر؟
والسؤال الذي ظل محل إشكالية، هو من يخرج «النصرة» من ادلب؟. والإجابة عنه طرحت خيارين اثنين: امّا تكرار تجربة الموصل فيها، أي حملة عسكرية دولية عليها، وهذا اتجاه تؤيّده اميركا؟
أم إضعاف النصرة بقوة تواجهها من داخل إدلب (أي فصائل «الجيش السوري الحر» ولو بالتحالف مع تنظيم «أحرار الشام» حليف تركيا وثاني اكبر تنظيم في إدلب بعد «النصرة»)؟.
واضح انّ «النصرة» في هجومها الأخير على «أحرار الشام»، إستبقَت الخيار الثاني وأجهضَته، الأمر الذي حَدا بوزارة الخارجية الاميركية الى إصدار بيان هدّدت فيه فصائل المعارضة في إدلب بأنّ عليها فرز نفسها عن «النصرة» وإلّا فإنّ شمال سوريا سيحصد كارثة تلطّي «النصرة» به.
وشكّل هذا البيان مؤشّراً الى انّ قرار خوض معركة ادلب حسب التصور الاميركي لها، عاد ووضِع على طاولة القرار تمهيداً لشملها بمناطق خفض التوتر قريباً…
نتائج اخرى أسفرت عنها مفاوضات كواليس إنشاء مناطق خفض التوتر في سوريا، وأبرزها: إتفاقات إنشاء هذه المناطق ليست محددة بمنطقة جغرافية أو مناطق محددة، بل ستشمل كل المناطق السورية تباعاً، وعمر هذه المناطق هو مؤقت وليس دائماً، وانّ أفقها هو المساهمة في وقف نار مستدام وشامل يمهّد لبدء مسار حل سياسي يقوم على وحدة سوريا أرضاً وشعباً.
والواقع انّ هذا المحدد لتعميم جغرافية مناطق خفض التوتر وجعلها مؤقتة، هدفه إيضاح انّ هذه المناطق لن تكون مدخلاً لتقسيم سوريا ضمن عملية توزّع نفوذ او فرض واقع سياسي جديد، ولإيضاح انّ هذه المفاوضات ميدانية وليست بديلاً من جنيف، وانها ليست نسخة مكررة عن خطة «المصالحات الوطنية» التي أطلقتها موسكو من خلال أستانا والهادفة الى نوع من الدمج بين النظام ومسلحي المناطق المحاصرة.
فمناطق خفض التوتر «المؤقتة» ستحافظ على الوضع القائم لتوزّع القوى فيها، حيث لن يحصل ايّ اندماج بين فصائل المعارضة في داخلها والجيش السوري الّا بعد اتّضاح ملامح الحل السياسي للأزمة السورية، ودور الروس فيه هو شريك في آليّة الضمان مع وشنطن ودول اخرى حسب كل منطقة (مصر في الغوطة، وتركيا في الشمال)، عدا إيران التي تضع عليها المعارضة وواشنطن «فيتو».