أيام النزاع المسلّح الطويل في لبنان تأقلمت الناس مع الحرب والتزمت بقواعدها ومفرداتها وتوقيتاتها، ونشأت علاقات اجتماعية حربية في المدن تشبه الى حد بعيد المجتمعات في الأرياف. كما نشأ بين الجيران علاقات يومية حتى أصبحوا يزورون بعضهم البعض بدون مواعيد وأحيانا بثياب النوم، اذ اصبح الرجال يجلسون امام البنايات بعد الظهر والنساء على البلكونات، ناهيك عن مواعيد النزول الى الملاجىء مصطحبين معهم طاولات الزهر واوراق اللعب والنقولات والمرطبات. وأصبحت الملاجئ مرافق عامة كما الساحات والبلاجات، يشتاق اليها الناس. وعندما بدأت الحرب بالانحسار بقيت في المدينة العلاقات الاجتماعية الحربية قائمة لسنوات لأنهم لم يكونوا متيقّنين من أنّ الحرب قد انتهت وربما تفاجئهم في وقت من الأوقات.
انها عملية التأقلم مع الظروف الاستثنائية او الشاذة بسبب زوال أسباب الانتظام العام. وهذا ما يعاني منه الآن معظم اللبنانيّون، إن لم نقل كل اللبنانيين الذين تأقلموا مع الفراغ واللا جدوى وأدبيات الانقسام والتعطيل، والتي كانت على مدى ثلاث سنوات تختصر كل التصريحات والكتابات والمواقف والمهارات، حتى بتنا متألّقين في تبرير الفراغ والعيش خارج الانتظام العام، تماماً كما كنّا ايام النزاع المسلّح، باستثناء النزول الى الملاجىء التي استعضنا عنها في صداقات التواصل الاجتماعي بين فريقي الانقسام. حتى المقاهي اصبحت بعضها لهذا الفريق واُخرى لذاك. إنه لأمرٌ مؤسف ان نكون قد اجتهدنا في اعتبار الفراغ نجاحاً سياسيّاً ووطنياً وأصبح التلاقي فشلاً واستسلاماً.
منذ ٣١ تشرين الأوّل، يوم انتخاب رئيس للبلاد، واللبنانيّون يبحثون عن موضوعات الخلاف الجديدة ويراهنون على عدم نجاح التجربة. وهذا أمر طبيعي لأنهم نسوا كيف تكون الأولويات وأنّ الفراغ الذي أدمنوا عليه قد أصبح أشبه بتعاطي المخدرات التي تجعلك سعيداً اذا لم تقم بما يتوجّب عليك تجاه نفسك وأهلك ووطنك ومستقبل الأجيال وتكتفي بما يقدمه لك الآخر من أسباب الفشل والضياع ومبررّاتها وأوهامها، اذ يصبح الضياع هو النجاح والخروج من المأزق ضياع وانتحار.
هذه الأزمة تشمل كل المكونات الوطنية بدون استثناء، لأن الجميع ساهم في صناعة الفراغ واستخدمه في موضوعات الاستقطاب السياسي والطائفي والشخصي، والى حد بعيد فلقد بالغ الجميع في استحضار أسباب الانقسام حتى العداء، ممّا جعلهم جميعاً اليوم عاجزين عن تقديم منتج سياسي وطني يتخطى الفراغ وآثاره على عموم الناس الذين استجابوا للتعبئة العمياء لأحزاب الشغور والفراغ، وبدون استثناء.
إنها أزمة وطنية بامتياز وتستدعي أن توضع في رأس التحديات، وهل هناك من يستطيع الآن انتاج سياسة وسياسات يلتقي حولها عموم الناس ويختلفون حول كيفية إنجازها وليس كيفية تعطيلها، لأنّ التعطيل أصبح ثقافة وطنية شائعة فكل فريق اصبح يريد أسلحة تعطيليّة، وكأنّ السياسة أصبحت الآن هي كيف نعطل الانتظام والحياة العامة التي تتطلب حالاً من الاستقرار والوحدة الوطنية وهي العامل الأساس في مواجهة ابسط التحديات. وخصوصاً عندما تكون كل المكونات السياسية تبحث عن السلطة في حين ان كل المجتمع يبحث عن السياسة، وبذلك نكون قد انتقلنا من الشغور الرئاسي الى الشغور السياسي.