Site icon IMLebanon

من الجمهورية إلى العامّية

طالعَني أخيراً أحد الأصدقاء الفرنسيين، وهو أستاذ محاضر في إحدى الجامعات الباريسية العريقة ومولَع بالتصنيفات القانونية، بشغفِه الدائم في توصيف النظام السياسي القائم في لبنان.

ويَعتبر هذا الصديق أنّنا كلبنانيين، بِتنا نتعايش مع نظام لا صلة له بالدستور ولا حتّى بـ»الطائف» ولا أيضاً بالنظام الذي سينبثق عن استكمال تطبيق مواده من استحداث «مجلس شيوخ» واعتماد اللامركزية الإدارية الموسّعة وتفعيل الإنماء المتوازن، إلى ما يليها من إصلاحات نصّ عنها.

وعملاً بهذا الشغف، يبدأ صديقنا الفرنسي بالقول إنّنا وصَلنا في لبنان إلى نوعٍ من الأنظمة هو غاية في الفرادة، ونادراً أيضاً أن نلحظه في التاريخ السياسي.

ذلك أنّ مبدأ فصلِ السلطات المعروف منذ كتابات «روسّو وكنط»، والتي أصبحت اليوم عرفاً معتمداً في القانون الدولي، أخذ في لبنان منحىً صارَت فيه الغلبة للسلطة الاشتراعية أو بالأحرى لزعماء التكتّلات النيابية – الحزبية في البرلمان. وأيّ غلبة لسلطة على أخرى هي بطبيعتها ديكتاتورية رغم أنّه جرى العرف على تخصيص مصطلح الديكتاتورية لنظام يَجمع السلطات في شخص رئيس الدولة.

وهو يرى أنّ بداية الغيث كانت لحظة تعطيل عمل المجلس الدستوري الذي وجب عليه النطق بشرعية تمديد المجلس النيابي لنفسِه أو عدمها. هذا التعطيل لم يُطح بمقوّمات السلطة القضائية الممثّلة بالمجلس الدستوري فحسب، بل أصاب أيضاً مقام رئاسة الجمهورية أي رأسَ هرم السلطات.

أضاف صديقنا الفرنسيّ، «إلى ذلك، إنّ الكتلة النيابية التي عارضَت قرار التمديد وقتذاك، ما لبثت أن تأقلمت مع آليات النظام الجديد، في حين تمّ الوصول إلى الشغور بالمركز الرئاسي بعدما رفضَ مَن كان يتبوّأ هذا المركز التشبّث به مفضّلاً الاحتكام إلى الدستور».

وقد استكمل هذا المشهد مع حكومة هي بالحقيقة صورة مصغّرة عن المجلس النيابي، بحيث إنّ النتيجة التي وصَلنا إليها كما يقول صديقنا الفرنسي، «أنّ غلبة السلطة التشريعية لم تؤدِّ إلى نظام مجلسي فحسب، بل أوصَلت عملياً إلى الاستغناء عن السلطة التشريعية نفسِها بقرار من القيّمين عليها».

هذه النتيجة، يتابع «صديقنا الفرنسي»، تنعكس بمفاعيلها على المؤسسات كافة. وهو لا يجد، بعكس الرأي السائد، أنّ المشكلة هي طائفية بل تكمن في عدم إنتاج قرار تراتبي موحّد في كلّ مِن هذه المؤسسات.

ويستدلّ على ذلك، وعلى سبيل المثال لا الحصر، من آليّة عمل مجلس إدارة كازينو لبنان، الذي كما هو معروف، موزّع بطريقة تحترم التمثيلَ الطائفي، هذا مع العِلم أنّ عمل هذه المؤسسة «الكازينو»، لا يمكن أن يمتّ بصِلة، لا لمفهوم الطوائف ولا لمفهوم الأديان.

ويلفت «صديقنا» إلى أنّ اعتماد هذه المنهجية، قد أثبتَ العديد من عوارض الفشل الذي لم تنقِذه التشكيلة الطائفية المتمثّل بها، لافتاً من ناحية أخرى الى أنّ هنالك العديد من المؤسسات اللبنانية التي أثبتَت جدارتها في الوضع الدستوري الحالي.وهذه الجدارة تعود إلى إمكانية إنتاج قرار فاعل فيها.

ويعتبر أن تعطيل الانتخابات البلدية سيُعيدنا في هذا السياق التراجعي إلى واقع العامّيات التي ميّزَت الحياة السياسية في لبنان قبل استحداث النظام البلدي مذكّراً بتأسيس بلدية دير القمر عام 1864.

من هنا، يشدّد صديقنا على أهمّية إجراء الانتخابات البلدية وتفعيل عمل منظمات المجتمع المدني فيها. إلّا أنّه يُميّز بين المجتمع المدني القائم على توزيع العمل الاجتماعي والاعتماد على الكفاءات العلمية والمهنية والنقابية والجمعيات من جهة، والمجتمع الأهلي من جهة أخرى، القائم على التبادلات والتحالفات بين العشائر والعائلات.

ويجزم أنّ استكمال المنحى التراجعي يكون بتغليب التجمّعات الأهلية على الكفاءات المدنية، ممّا ينقلنا إلى واقع ما قبل العامّيات الذي عرفناه في القرن التاسع عشر.

من هنا يعتبر «صديقنا» أنّ الحاجة صارت ملِحّة لإجراء الانتخابات البلدية في غياب المؤسسات السيادية الفاعلة، مع ضرورة التنبيه من خطورة «التطبيع مع الفراغ الرئاسي» وانعكاساته السلبية على الصُعد كافّة.