IMLebanon

من الدولة ـ العشيرة إلى دول العشائر

من مفارقات الحالة العربية الراهنة عودة العشائر الى الساحة السياسية والعسكرية، وهي تبدو قادرة على التعامل مع التحولات التي أفرزها «الربيع العربي». عشائر المشرق العربي في العراق وسوريا والأردن وامتداداتها في الخليج وصولاً الى اليمن وبلدان أخرى استطاعت ان تتأقلم مع رياح التغيير وعواصفها على مر العصور. وعلى رغم تهاوي أنظمة الحكم والدول، لا تزال العشائر قائمة وفاعلة في مناطق تواجدها كبنى اجتماعية وديموغرافية وحتى سياسية في مدى جغرافي مفتوح، وهي تتعاون مع جميع الأطراف المتنازعة: أنظمة الحكم والقوى المناهضة لها، لا سيما الجماعات التكفيرية المسلحة في سوريا والعراق ودول المنطقة، وصولاً الى الدولة العظمى التي مهدّت لانسحابها من العراق في 2008 بالتعاون الوثيق مع «صحوات العشائر»، وهي نتاج الشرق الأوسط القديم الذي تعود جذوره الى ما قبل اكتشاف كريستوفر كولومبوس القارة الأميركية اوآخر القرن الخامس عشر.

عاصرت العشائر التغيرات الكبرى في المنطقة منذ انهيار السلطنة العثمانية. تماهت مع الدولة الوطنية التي لم توفر العشائر ولا سواها، قمعاً أو تهميشاً. أقامت الدول الجيوش وأجهزة المخابرات، وبعد سقوطها استعادت العشائر موقعها ونفوذها وعادت المجتمعات الى أصولها وعصبياتها وكأن الدولة الوطنية لم تكن قائمة، ومعها أحزابها الحاكمة باسم الأيديولوجيا والمصير المشترك. لم يبقَ من المشترك سوى الذكرى، والمصير بات بيد جماعات مدججة بالسلاح والمال تبطش وتقتل باسم الدين. سقوط الأنبار وقبلها الموصل في العراق وتمدد داعش وجبهة النصرة في سوريا هي أحداث ارتبطت بموقف العشائر، منها من تعاون مع التنظيمات التكفيرية ومنها من اصطدم معها. تموضعت العشائر مع تحولات الدين والدنيا والدولة وظل ولاء أبنائها للعشيرة الحامية، «الوطن» الثابت في أوقات الشدة والملاذ الأخير للحكام والمحكومين. بعد سقوط النظام العراقي، كانت العشيرة الملجأ الأكثر وثوقاً وأماناً لصدام حسين ومعاونيه من أبناء العشيرة وأنصارهم. وبين ليلة وضحاها حلّت الكوفية العربية مكان السيغار الكوبي والعشيرة مكان العسكر وصواريخ السكود.

العشائرية ظاهرة عرفتها معظم الشعوب منذ القدم ولا ينفرد بها العالم العربي، فوجود العشائر سابق للأديان والإمبراطوريات والدول، والحالة العشائرية منتشرة ومؤثرة في المنطقة العربية وإن بأشكال وظواهر مختلفة. طوائف لبنان عشائر حديثة (مودرن)، وفي الخليج انخرطت العشائر بالعولمة المالية والنفطية بينما عشائر اليمن ظلت بالمقارنة على حالها.

الأحزاب السياسية، حتى الأيديولوجية منها، في زمن الأزمات الحادة والتراجع سرعان ما تتحول الى عشائر منظمة. معظم الدول الحديثة في العالم العربي عشائرية المنبت والطابع. إنه «الوعي العصبي» الذي اكتشفه ابن خلدون في القرن الرابع عشر، المبني على التلاحم والتعاضد لحفظ كيان الجماعة. في زمن ابن خلدون كان التمييز بين العمران البدوي والعمران الحضري، وفي زمننا تبقى العصبية حجر الزاوية في قيام الدول وعمرانها واندثارها، وتؤمن العشيرة الحيّز الجامع على أساس رابطة الدم والنسب، الفعلي او المتخيّل. إنه الولاء والأمان المتلازم مع الولادة في البيئة الحاضنة الأولى، قبل الدولة والوطن والأمة، منذ الجاهلية ومع الإسلام وبعده. العشائر لم يصنعها الاستعمار، بل جاء استهتار الأنظمة الحاكمة واستئثارها بالسلطة ليحفظ لها مكانة ودوراً. ثمة واقع ميداني متقلب تتشارك فيه اليوم العشائر والتنظيمات السلفية التكفيرية في العراق وسوريا وليبيا وسواها. والطرفان لا يعترفان بحدود الدول، ولا يقيمان لأفعال سايكس وزميله بيكو او لأي من «الآباء المؤسسين»، المحليين أو المستوردين، أي اعتبار.

يعود العالم العربي مثقلاً بعصبيات الماضي والحاضر بحزم واندفاع الى حقبة ما قبل الدولة، بعد نحو قرن على قيام الدولة الوطنية بتطلعات قومية، وكأنها مرت مرور الكرام، لا أثر لها في حياة الناس وخياراتهم وانتماءاتهم عند اشتداد المحن والأزمات. الدولة المتهالكة عرضة للتحلل السريع في ولاءات أركانها المفصلة على قياس الحاكم وفي بنيانها ومفاصل سلطتها. لا أزمة هوية او كيان او نظام، ولا صراع حول الدين او مع تحديات الحداثة في الوسط العشائري. واقعية مطلقة وهوية مرنة تسود أمم العشائر التي يُعاد اكتشافها وإن لم يكن يُحسب لها حساب في زمن الشعارات الكبرى والأوهام المضللة للذات وللغير.