IMLebanon

من محاسبة الديموقراطية إلى ديموقراطية المحاسبة

 

ما أقدمَ عليه الرئيس سعد الحريري من خطوات داخلية في تيّار «المستقبل»، من نقد ذاتي تحت عنوان المحاسبة، بعد نتائج الانتخابات النيابية، خطوة ديموقراطية، نتيجة مراجعة لكل الوقائع التي تمخضت عنها العملية الانتخابية، وهي من صلب الحوار القائم في صلب حزب أو تيار أو سلطة، قلّما عرفناها في الأحزاب والأنظمة العربية. فاعتبار أن المحاسبة هي المرادف الأساسي للديموقراطية، لا يعني لا انقلاباً، ولا حركة تصحيحية، ولا تطهيراً، على طريقة الأنظمة التوتاليتارية والحزب الواحد، ولا قراراً فوقياً. فالديموقراطية أصلاً بين السلطة والشعب بين مَن يمثّل الأولى وما يمثّل الثانية، هي المراجعة والنقد الذاتي. وهذا ما انتقدنا طويلاً. فقد علمتنا الحركات والتنظيمات والتيارات السياسية أن كل موقف نقدي ذاتي ممنوع على الناس، والوحيد الذي يقوم بذلك هي السلطة دون سواها، وهنا بالذات ننتقل من محاسبة الديموقراطية، إلى ديموقراطية المحاسبة. ولأن الأنظمة العربية بهيئاتها وناسها وقياداتها ودكتاتوريتها، لا تخضع لانتظارات الناس. بمعنى أنها تحاسب الناس بدلاً من أن تحاسب نفسها، بل هي فوق كل مراجعة أو محاسبة. هي الفيصل الواحد، والمرجعية الواحدة، التي تتواطأ مع نفسها، وتضع مقاماتها فوق كل مرتبة. وكيف يقابل الناس أخطاء الدولة أو ممارساتها، سوى بالسكوت المقموع، والقبول المفروض. بمعنى آخر، وإزاء نتائج الحرب والهزائم العسكرية والسياسية والاقتصادية، تحيل هذه الأنظمة، الدكتاتورية المسؤولية على سواها: مؤامرة خارجية، أو «انتظرناهم من الشرق فجاؤوا من الغرب»، أو «لو كنت أعلم»، أو في المقابل إعلان الانتصارات المزيّفة التي تُخرس كل صوت احتجاجي، يراجع المسؤولين عن مآلاتهم وأخطائهم وقمعهم.

 

ولا ننسى نغمات التخوين، وعندها وبدلاً من الإصغاء إلى أصوات الناس، ومحاورتهم يعتمدون المونولوغات والقرارات، التي غالباً ما تفضي إلى انقلاب، يُصفّي فيها القائد كلَّ معارضيه، إما تحت شعار التخوين، أو العمالة، أو المؤامرة. هذا ما عرفناه في نكسة 1967، حيث طلع الرئيس عبدالناصر (متنحياً) وأعلن مسؤوليته عن «النكسة»، في الوقت الذي سلم فيه النظام السوري الجولان، وأعلن انتصار الحزب الحاكم على إسرائيل «التي نجحت في احتلال الأرض وفشلت في إسقاط الحزب»! وهذا ما لجأ إليه «حزب الله» في حرب 2006، عندما أعلن انتصار الحزب.. مقابل هزيمة لبنان. وهذا ما سبق أن حصل في حرب 1973 عندما أعلن حزب البعث الأسدي انتصاره (الدائم الأبدي)، واحتفل به، في الوقت الذي بقي الجولان محتلاً. ولو راجعنا قليلاً ما أعقب هذه الهزائم، لما وجدنا سوى الانقلابات، أو التطهير أو القتل تغطية لفشل النظام. الحزب الواحد إن الحزب الواحد الذي يلغي التنوّع (وهو كأساس التنافس السياسي) دائماً على حق. يسمّي المحاسبة المزعومة انقلاباً دموياً، والقمع محاسبة شعبية، وتجري كل الأمور خارج إرادات الناس، المحذوفين. فالديموقراطية بمعناها الأصلي والمستجدّ هي الشيء الذي يختار ويحاسب ويعاقب في المناسبات الانتخابية، وفي المنابر الإعلامية، والتظاهرات. لكن ماذا يفعل هذا الشعب إذا كانت الجيوش والقوى الأمنية، والصحافة، والتلفزيونات، هي في يد السلطة الحزبية أو المذهبية المقنعة أو الايديولوجية الشعبوية؟ من هنا بالذات نفهم أن ما أقدم عليه تيّار «المستقبل» بعد مداولات وحوارات، واتخذ فيه قرارات مؤلمة خضعت للعقاب والنقد الذاتي، أمر جدير بالاهتمام. كأنه خروج من الذهنية التي سادت العالم العربي أكثر من نصف قرن. بمعنى آخر، لم يضع التيار رأسه في الرمل كالنعامة، ليخفي الحقائق، والوقائع التي أثّرت سلباً في النتائج الانتخابية. قامت محاكمة أفعال، وخروج على القرارات، وإهمال، وفساد، من خلال جلسات نقد ذاتي، حوّلت هذه الظواهر إلى أسباب داخلية، خاصة، ولم تحلْها على أسباب خارجية فقط، أو مؤامرات. والمستغرب الأليف أن بعضهم، ممَّن بنى أحزاباً (مرتهنة بالخارج)، وفاشية، وكانتونية، واستبدادية، فهم الأمر كما يشتهي، فسمّى «حركة تصحيحية» (تذكّر بالانقلابات السورية والمواجهات الدموية)، وتصفية كل ما يُشكّل «خطراً» على السلطة، إما بالقتل أو بالسجن أو بالنفي. لأن هؤلاء لم يعرفوا، ولم يعيشوا، ولم يمارسوا الديموقراطية فكيف يتفهمونها. أحزاب فاشية مذهبية أحادية تسخر وتشوّه ما أقدم عليه الحريري من ممارسة ديموقراطية، شيء مضحك. السيادة والديموقراطية فحزب مرتهن بالخارج يداً وفماً وجيوباً وسلاحاً يسمح لنفسه بانتقاد الديموقراطيين. وقد نسي هؤلاء أن السيادة والحرية والانتماءات الوطنية هي الأسس التي قامت وتقوم عليها الديموقراطية. وقد عرفنا كل هذا في الحروب التي اشتعلت ضدّ لبنان منذ 1975 (وما زالت)، حيث تحوّلت أحزاب عديدة من «صفوف الديموقراطية» (وإن مزعومة) إلى صفوف الميليشيات. في مثل هذا الواقع تنعدم كل محاسبة، ويتحول الشعب إما كتلاً برسم الموت، أو مخدوعاً بالشعارات، أو مرذولاً. وثقافة الميليشيات (وجلها ارتبط بالخارج)، هي تماماً ثقافة الأنظمة الديكتاتورية التي تحوّل بلدانها بكانتونات «موحّدة» بالقمع، وبالقوة، لتجعلها مجرد سجون كبيرة. فالعقلانيون والسلميون تنتفي أدوارهم، أمام جنوح النزعات الغرائزية والنرجسيات المذهبية الجماعية. وهكذا ألغى هؤلاء «فرادة لبنان» المتنوّع في أحزابه وايديولوجياته ليجعلوه على صورة الأنظمة السائدة، كما في سوريا آل الأسد، والعراق آل صدام حسين، وليبيا آل القذافي، واليمن آل علي صالح، وتونس.. وإيران وعائلة خامنئي. ركام المفاهيم من هنا وفي هذا الركام من المفاهيم الخاطئة التي رسخت السلاح والبطش والشعارات والتلفيقات، يبدو قرار الحريري، خطوة جديدة في هذا العالم المليء بالقتل والجنون والخراب والفوضى. بل إن الحريري يلتقي هنا «الربيع العربي» في منطلقاته الأولى التي عبّرت عنه صحوة الشعوب، ومحاسبة الأنظمة، من تونس إلى مصر إلى ليبيا إلى سوريا، إلى اليمن. الجحيم ومَن لا يعرف مَن حوَّل الربيع العربي جحيماً: إنها الأنظمة التي استجلبت للدفاع عن نفسها ضد إرادة الشعب كل ما هبّ ودبّ من قوى خارجية: من إيران الفارسية والملالية (جاءت تعلمنا كيف يجب أن نعيش ونفكر ونمارس) إلى روسيا، فإلى الولايات المتحدة، وتركيا. انتهت سوريا وتحوّل نظامها حطاماً وذكرى وأشباحاً. فلو أن هذه الأنظمة حاولت على الأقل محاورة «ثورة» شعبها، وتفهمه، لما آلت الأمور إلى مثل هذه الكوارث. واجهت محاسبة شعبها لها بإبادته، وتهجيره، وسجنه، بإعدامات ومجازر. عاملت شعوبها المنتفضة السلمية (خصوصاً في سوريا) بالتخوين، وبحروب مضادة. حتى تفاقمت الأمور، وصار ما صار في سوريا وفي ليبيا.. لم يبقَّ شيء من «قلب العروبة النابض» (دمشق) لا عروبة، ولا ناس، ولا بشر ولا حجر؛ فالعروبة صادرتها إيران الفارسية. بل، تحوّلت سوريا، في عهد بشار بن حافظ الأسد، إلى قطاعات تتقاسمها الاحتلالات والميليشيات، وتحوّل قصر المهاجرين إلى ركام معنوي ومادي للسلطة. لا نظام. لا جمهورية. لا رئيس. لا مجلس نواب. ولا حكومة. ولا اقتصاد. والسؤال إذا كان كل ذلك تمّ بمسؤولية القيادة.. فماذا تبقّى للأسد: لا شيء، مجرد شبح مختفٍ وراء الجدران والأروقة. من هنا، كان لتيّار «المستقبل» مقدّمات، قائمة على مبادئ وسياسات وتوجهات، تدعو إلى النأي بالنفس، والاعتدال، وأولوية مصلحة الشعب اللبناني «لن ننجرّ إلى إدخال البلد في طاحونة الحروب لا هنا ولا هناك». وهذا ما لم يفعله «حزب الله»، الذي وافق في البداية على النأي بنفسه، ثم، وعندما ساقته الإرادة الإيرانية للانخراط ضدّ الشعب السوري، لبّى النداء وحصيلته نحو ثلاثة آلاف قتيل من الشباب اللبناني الشيعي.. من دون أي محاسبة، بل من دون أي قدرة على المحاسبة. بلا تخوين من هنا، نفهم أن ما أقدم عليه الحريري، من محاسبة المقصّرين في ممارسات الاستحقاق الانتخابي لا يأتي من باب مواجهة «أعدائه» أو خصومه في التيار بل محازبوه: بلا تخوين، ولا عنف، ولا اتهامات بل محاسبة ديموقراطية، عادلة؛ بمعنى آخر لم يُعامل هؤلاء المقصرون والمهملون كأعداء (كما هي حال محاسبة الأنظمة الديكتاتورية لمعارضيها وتصفيتهم)، فالمنسقيات التي وجد المحاورون أنها ارتكبت أخطاء غير مبررة، قد حُلَّت كمسألة داخلية وخاصة وضمن مبادئ التيار الأزرق. فلا ديموقراطية بلا محاسبة. ولا محاسبة بدون ديموقراطية. ونظن أن عملية «العقاب» التي تمت في اجتماعات مفتوحة لا علاقة بها بالمنحى الانقلابي، بل بالمدى الإصلاحي، والسياسي والوطني. أن يقصّر أبناء «المستقبل» في هذه الدوائر، يعني كأنما هناك «فوضى» قد تتنامى وتكبر، على امتداد التيار، إذا تُركت على عواهنها. وعندما أوردت بعض الصحف «الإيرانية» في لبنان أن الحريري عمد إلى هذا الاختيار ترضية للسعودية ولشعبيته، يعني تحوير الأمور إلى نقائضها. بل وصل الأمر ببعض الأقلام إلى أن ذلك إعلان «عودة إلى بيت الطاعة»، وهذا سخيف، ولو أن الأمور كذلك لما قاد الحريري المعارك الانتخابية «باللحم الحي». في الوقت الذي تتدفق «المساعدات» الإيرانية على هذه الصحيفة أو تلك، لتكون مجرّد صدى فارغ لأمثال سليماني والجعفري، هناك بيت الطاعة الأصلي لحزب الله: إيرانه المقدّسة التي بلغت «مساعداتها» له عشرات المليارات من الدولارات. (مقابل ماذا ومَن قال إن إيران هي جمعية البرّ والإحسان!). وكل هؤلاء يعرف كيف واجه الحريري ضغوطات مختلفة ليتحوّل من «نأيه بالنفس» واعتداله، في الوقت الذي سبقه السيد حسن نصرالله إلى أتون الحرب السورية بصفة مذهبية لإنقاذ بشار الأسد، وخدمة مصالح خامنئي. أما قول المقالة عن الحريري «إن وراء عمليته إرضاء لشعبيته»، فهذا صحيح. فإذا كانت شعبية الحريري تتساءل عن أسباب العثرات في الانتخابات فمن الطبيعي لزعيم ديموقراطي أن يضع أصبعه على الجروح. فشعبيته تطالب «بالحقيقة» ومنحها إياها. أما «حزب الله»، فقد واجه منتقدي مساراته وإهماله للمناطق الفقيرة، بالتخوين، والتهديد والوعيد (وهو متّهم بتزوير الانتخابات). إن القيادات والأحزاب، كما علمنا وخبرنا، التي تحذف مبدأ المحاسبة من قاموسها، فيعني إعلانها الانضمام إلى الفاشية والاستبدادية واحتقار الناس! حسناً فعل تيّار «المستقبل»، مبرهناً تمسّكه بالديموقراطية الحزبية، الغائبة منذ عقود عن السياسة اللبنانية والعربية.

 

بول شاوول