لا يشبه النزاع العربي ـ الإسرائيلي، في جذوره التاريخية ومضامينه السياسية وأبعاده القومية، أياً من النزاعات الإقليمية المعاصرة. حروب عديدة شهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية، بدأت وانتهت، ولم تكن حول كامل الأرض وحق الشعب في ماضيه وحاضره ومستقبله، مثلما هو الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. حرب فيتنام، مثلا، شغلت العالم طيلة عقدين، وكانت سبقتها حرب كوريا التي كادت أن تُشعل حرباً عالمية ثالثة بترسانة نووية.
في زمن مضى كان يمكن وضع النزاع العربي – الإسرائيلي في سياق واضح المعالم: في خانة الاستعمار أو الحرب الباردة، منها حرب السويس في 1956، أو في إطار الصراع بين الاحتلال والمقاومة، لاسيما بنظر الرأي العام البعيد جغرافياً وسياسياً ووجدانياً عن النزاع وأهله.
لكن مع الحروب المشتعلة في المنطقة وغزوات التنظيمات الجهادية السلفية، لم يعُد للنزاع العربي – الإسرائيلي فرادة أو خصوصية، ولا حتى اهتمام من المحيط العربي والعالم، رغم تنامي التعاطف الأوروبي مع الفلسطينيين في السنوات الأخيرة. يبدو النزاع اليوم تقليدياً، مُتعِباً للقريب والبعيد، للمناصر والمعادي، بلا أفق أو بريق جاذب، خلافاً للنزاع – القضية الجامعة في مراحل سابقة.
الاحتلال الإسرائيلي متواصل، استيطاناً وتهويداً وقتلاً. كما أن مكامن الخلل في المرحلة الراهنة عديدة، لعل أبرزها القيادة الفلسطينية المنهكة بصراعات السلطة، وهي لا تقل حدّة عن الصراع مع المحتلّ. بعد حرب 1967 تمحور الهمّ الفلسطيني حول الاعتراف بالمرجعية، فكانت منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وبعد نحو أربعة عقود، تُستعاد مسألة المرجعية في سياق سياسي وتاريخي مختلف. فأي سلطة تمثل الفلسطينيين، لا خارج فلسطين فحسب بل على أرضها، مع تفاقم الشرخ بين «السلطة الوطنية» في الضفة وسلطة «حماس» في غزة. هذا الواقع السياسي والجغرافي والأمني والديمغرافي لم يعد تفصيلاً بسيطاً على هامش القضية، بل في متن التراجع المقلق الذي أصاب الأوضاع الفلسطينية. فبين سلطة مكبّلة في الضفة ومقاومة بلا مردود سياسي حاسم في غزة، يتمأسس الاحتلال وينتظم الانقسام.
«اتفاق اوسلو» ليس سبباً وحيداً لهذا الانحدار. فما اصاب العالم العربي، قبل «الربيع العربي» وبعده، ترك أثراً عميقاً في فلسطين. عسكرة الدين في السنوات الأخيرة حالة غير مسبوقة والنزاعات الإقليمية المسلحة ليست مسائل عابرة، ومعها هموم الحياة اليومية التي تشغل بال الناس في العالم العربي. أولويات جيل «الربيع العربي» لا تشبه القضايا التي حرّكت الآباء والأجداد باسم العروبة والثورة والتحرير.
في المقابل، تعود إسرائيل الى طروحات الهوية في أبعادها الإلغائية والتوسّعية. فبعد مقولة «حق إسرائيل بالوجود» التي لازمت الموقف الإسرائيلي طيلة نصف قرن، ها هي تعود اليوم الى شرط الاعتراف الفلسطيني بالهوية اليهودية لإسرائيل. الفارق كبير بين الاعتراف بالدولة في إطار تسوية حلّ الدولتين والاعتراف بالهوية الوطنية لدولة الاحتلال، وكأن المطلوب الاعتراف بحق اسرائيل باعتماد سياسات قد تصل الى حدّ التطهير العرقي.
في منتصف التسعينيات، روّج شيمون بيريز لشرق اوسط جديد (وهو غير شرق أوسط جورج دبليو بوش)، يسوده السلام بين إسرائيل وجيرانها العرب. ودَرَج الكلام آنذاك عن إسرائيل ما بعد الصهيونية (Post-Zionist Israel)، أي أن هموم الفرد الإسرائيلي لم تعُد تختلف عن هموم الناس في دول الغرب الديمقراطي. لكن سرعان ما عادت إسرائيل الى أكثر السياسات تطرفاً. ولن ترضى بما كان يمكن ان تقبل به في الماضي، خصوصاً بعد حرب 1973، عندما شعرت بالتهديد المباشر لأمنها وتأكدت ان السلاح المتطور والدفاعات المحصّنة ودعم اميركا لن يحميها عندما تتوافر الإرادة العربية الجامعة في التصدي.
التنافس في إسرائيل محوره اليوم السيئ والأسوأ: بين نتنياهو وليبرمان، وبين التهجير الجماعي لفلسطينيي الداخل والجدار العازل. فكلّما شعرت اسرائيل بالأمان، تشدّدت وانقسمت. والانقسام لم يعد بين يسار ويمين بل داخل اليمين المتطرف المهيمن الآن فكرياً وسياسياً. إنه الإجماع الإسرائيلي على غياب «الشريك» الفلسطيني وعلى رفض قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، ما يعكس الاطمئنان الى ثبات التراجع العربي والانقسام الفلسطيني. اما الإجماع العربي فلمعركته عدو مشترك جديد: ايران التي تصالحت مع أعدائها وتعقد الصفقات التجارية المعولمة.
في حقبات الاحتلال كافة، رفعت إسرائيل لواء قضية جامعة لهدف واحد، قبل نشوء الدولة في 1948 وبعدها. لكن إلى ماذا ترتكز الفصائل الفلسطينية المتناحرة، المستعجلة قطف ثمار ثورة لم تُنضِج ثمارها، الدولة المستقلة تحديداً؟ فإذا لم يكن الاحتلال دافعاً لوحدة الرأي والفعل والهدف الفلسطيني، فما الذي سيجمع بعد أكثر من نصف قرن من الآلام والاحلام؟