لم يقل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بعد لقائه وزير الخارجية السوري وليد المعلم، سوى ما يعرف هو قبل غيره أنه من المستحيلات في الفترة الحالية. والمقصود، كما قال، التحالف بين السعودية وإيران وسورية والأردن لمحاربة الإرهاب في المنطقة باعتباره مشكلتها الأهم الآن. وعلى رغم أنه أضاف إلى ذلك أنه لا يزال على موقفه الداعم للنظام في دمشق، ما رسم ارتياحاً على محيّا المعلم، وطبلت وزمرت له لاحقاً بطانة هذا النظام في جوقة «الممانعة»، فالواقع أن ما لم يقله بوتين في تصريحه، ولا تحدث عنه وزير خارجيته سيرغي لافروف في مؤتمره الصحافي مع المعلم، هو ما كان موضوع المحادثات بين الطرفين، وحتى أساس دعوة المعلم والوفد المرافق له لزيارة موسكو.
موضوع الزيارة هو الرسالة التي بعثت بها دمشق إلى القيادة الروسية قبل شهر، وطلبت فيها استئناف البحث بما سمي «موسكو 3» مع المعارضة السورية، بعد أن عمد الكرملين إلى تجميد هذا المسار رداً على مواقف الوفد السوري إلى «موسكو 2»، وتحديداً رئيسه بشار الجعفري، ومسؤوليته المباشرة عن فشل المؤتمر، وحتى عن انسحاب بعض المعارضين منه وربما رفضهم حضور أي مؤتمر آخر لهذا السبب.
أما لماذا طلبت دمشق ذلك، ولماذا تريثت موسكو في الرد، ففي المعلومات المتداولة أن الأول جاء بعدما أصيبت قوات النظام بهزائم ميدانية كبيرة في أكثر من منطقة في سورية، وأن موقف موسكو منه كان الرغبة بالحصول على ضمانات بعدم تكرار ما حدث في «موسكو 2»، وهو ما يبدو أنه تم فعلاً قبل أن توجه الدعوة إلى المعلم للقيام بهذه الزيارة.
في «موسكو 2»، الذي عقد بين 6 و9 نيسان (إبريل) الماضي، لجأ الجعفري إلى ما قال المعارضون أنه «مماطلة» ممجوجة وحتى «قلة تهذيب» عندما رفض مناقشة الورقة التي قدمتها وفود المعارضة وأصر على البحث فقط بمحاربة الإرهاب، ما أدى إلى خروج منسق «هيئة التنسيق»، المتهمة بأنها قريبة من النظام، حسن عبدالعظيم، ليعلن فشل المؤتمر «بسبب سلوك وفد النظام وعدم موافقته على مناقشة وإقرار إجراءات بناء الثقة المطلوبة لاختبار مدى جديته»، كما قال. فيما أعلن ممثل «منبر النداء الديموقراطي»، سمير العيطة، «أن الجعفري كان غير جدّي في التعاطي مع مطالب المعارضة، بل كان غير مهذب أحياناً، حيث خرج عن آداب الحديث في إحدى المرات».
هذا الموقف انعكس على الوفد الروسي المنظم للمؤتمر، وبدا ذلك جلياً عندما جاء السفير الروسي السابق في دمشق ليتلو كلمة لافروف (على عكس ما حدث في «موسكو 1» حيث حضر لافروف بنفسه) وتحدث عن «الظروف السلبية التي ترفضها غالبية السوريين مثل الفساد وعدم إرساء حكم القانون» من جهة، وعن دعمه لما وصفه بـ «المواقف البناءة لبعض الفصائل المعارضة وحتى المسلحة» من جهة ثانية. لكن الأهم من ذلك كان انتقاده المباشر للسلطة، بإعلانه أن عدد المعتقلين الذين أطلق سراحهم وقالت السلطة أنهم 683 شخصاً هو أقل من ذلك بكثير».
منذ «موسكو 2» هذا، فقد نظام الأسد المزيد من الأراضي وانسحبت قواته والقوات المتحالفة معه إلى خطوط يعتبر الدفاع عنها أسهل عليه، على رغم دعمه بصورة علنية ومباشرة من «الحرس الثوري الإيراني» وميليشيا «حزب الله» والميليشيات العراقية.
ظهرت أولى بوادر التغير بسقوط مدينة إدلب في شمال غرب البلاد ثم بعدها بقليل جسر الشغور، البلدة ذات الأهمية الاستراتيجية على الطريق إلى اللاذقية والساحل معقل الأقلية العلوية، فضلاً عن تقلص الرقعة التي يسيطر عليها في الجنوب من درعا إلى القنيطرة.
كذلك انتزع تنظيم «داعش» السيطرة على معقله في شرق سورية، الذي تقدم منه إلى العراق في حزيران (يونيو) الماضي، من أيدي جماعات أخرى، كما استولى بعد ذلك على مدينة تدمر في الوسط بينما انسحبت قوات الأسد إلى جهة الغرب.
وفي الشمال الشرقي استطاع المقاتلون الأكراد السيطرة على مساحة واسعة من الأرض بعدما انتزعوها من أيدي «داعش» قرب الحدود التركية، فسيطروا على كوباني أولاً ثم على تل أبيض لاحقاً ليقطعوا بذلك خطوط الإمداد من تركيا إلى الرقة، العاصمة الفعلية للتنظيم.
وإجمالاً، لم يعد النظام متواجداً إلا على ما لا يتجاوز 25 في المئة من الأراضي السورية، في الوقت الذي بدا فيه واضحاً أن جل همه الآن هو المحافظة، بدعم مباشر من إيران و «حزب الله»، على شريط من الأرض يمتد من دمشق إلى حمص وحماه وصولاً إلى طرطوس واللاذقية من دون أي شيء آخر.
هذا لناحية موازين القوى على الأرض. أما في السياسة، فكثرت في الفترة ذاتها التسريبات عن «تراجع» الدعم العسكري والمالي الإيراني على خلفية العقوبات الدولية، وحتى عن «صفقة» سيكون على إيران أن تعقدها مع الدول الست الكبرى لتمرير الاتفاق النووي معها، فضلاً عن «عدم قدرة» روسيا نفسها على مواصلة الدفاع عن نظام الأسد في ما لا يستطيع هو أن يدافع عنه… لا ميدانياً في الداخل السوري، ولا سياسياً حيث لا حديث الآن إلا عن تقسيم سورية أو الاكتفاء بـ «دولة» في الساحل السوري، ولا دولياً حيث تزداد الدلائل على استخدام المواد الكيماوية والبيولوجية من قبل قوات النظام في حربه ضد شعبه.
في هذا المناخ، جاءت رسالة دمشق التي تطلب فيها من موسكو استئناف البحث مع المعارضة في صيغة «موسكو 3»، أو حتى «جنيف 3» في مرحلة لاحقة، أملاً في أن تؤدي إعادة تحريك ما وصف بـ «العملية السياسية» منذ بيان جنيف في 30 حزيران 2012 إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من النظام. وعلى خلفيتها، كما على خلفية ما يمكن أن تكون موسكو قد أخذته من ضمانات لعدم تكرار ما حدث في نيسان، جاءت زيارة المعلم هذه وتالياً المحادثات التي أجراها مع بوتين ولافروف في شأن احتمال استئناف البحث مع من يقبل من المعارضين بتسوية سياسية للأزمة.
ولأن أياً من الطرفين، موسكو ودمشق، لا يرغب في أن تعقد «موسكو 3»، أو لاحقاً «جنيف 3»، في سياق ما بعد تراجع النظام عن مواقفه السابقة، لما يعنيه ذلك من إمكان فشل المحادثات حتى قبل بدئها، كان حرصهما معاً على الحديث العلني عما لم يتحدثا عنه في الغرف المغلقة. ولم يكن تصريح بوتين عن التحالف المستحيل بين السعودية وإيران وسورية والأردن إلا من هذا القبيل.
لكن ما يبقى هو السؤال: هل يمكن أن يعقد «موسكو 3» قريباً؟، واستطراداً: هل يمكن أن يسفر عن نتيجة تنهي الحرب المجنونة من جهة، وتضع سورية على طريق الحل السياسي الذي يحفظ وحدة البلد، أم أن «المماطلة» وحتى «قلة التهذيب» و «الكذب» في شأن أعداد المعتقلين والمفرج عنهم من بينهم لا تزال هي القواسم المشتركة لهذا النظام؟
هذا ما تكشفه الأسابيع القليلة المقبلة: توجه الدعوة إلى «موسكو 3» أم لا؟