ألا يستحق من استلم وزارة الطاقة لعشر سنوات مساءلة وزرائه عن ملفات الهدر؟
لم يقدّم الوزير السابق جبران باسيل جديداً في مؤتمر الصحافي الأخير. أصلاً لم ينتظر أحد أن يسمع منه مفيداً. الكثير الكثير من الكلام المتناقض، وادّعاء البطولات، والتحريض الطائفي المبطن، والإمعان بالتنصل من مسؤولية الفساد والهدر، وخصوصاً في ملف الطاقة بكل تشعباته.
في الخلاصة هو يريد القول، أو الادعاء، على جاري عادته أنه يريد العمل لكن ثمة من يعطل ولا يسمح له، ولا يريد له النجاح لإيصال لبنان إلى القمر!
إعادة طرح ملف الفيول المغشوش من باب الاستدعاءات القضائية؛ مناسبةٌ لمقاربة باتت ضرورية لملف الكهرباء والمشتقات النفطية بكل تشعباتهما، كنموذج فاقع للفساد والهدر والانتهاب والانتهازية والمحاصصة، وللذهنية الشعبوية في التعاطي مع الملفات المتصلة بمنظومة الفساد، كالأملاك البحرية والاتصالات والكسارات والتهريب عبر الحدود والمرافئ، والتهرّب الضريبي وغيرها من القطاعات التي حجبت عن الخزينة العامة مئات مليارات الدولارات ذهبت إلى جيوب المنظومة الحاكمة وأدواتها في ثقب الفساد الأسود.
للتذكير فإن ملف الكهرباء، بواخر وفيول وهدر، استنزف خزينة الدولة، وخصوصاً خلال السنوات الـ15 الأخيرة، والتهم مليارات الدولارات، وتسبب بتفاقم العجز من دون أن تحقيق الوعد الكاذب بتأمين التيار الكهربائي للناس. يكفي الإشارة إلى أن 35% من الموازنة السنوية تذهب لرواتب الموظفين و37% لخدمة الدين و11% للكهرباء! وهو ملف لا يمكن، بالعقل، تصديق أن يكون المتورط فيه موظف واحد مهما بلغت درجته، أو حتى شركة واحدة! وكل ذلك يجعل من أي مقاربة قضائية له أن تكون منزهةً عن الانتقائية أو الكيدية أو الغَرَضيّة السياسية.
مسلسل الفضائح المتعلقة بالكهرباء ومشتقاتها، جعل من أقرب حلفاء «التيار الوطني الحر» يواجه حرجاً في مجاراة الطمع المبالغ فيه، وهو ما تجسّد في جلسة مجلس الوزراء نهاية الاسبوع الماضي حيث اعترض الوزراء من حلفاء «التيار» فضلاً عن بقية الوزراء على بناء محطة الكهرباء في سلعاتا، وفي النتيجة طارت المحطة بالتصويت. طارت المحطة التي قاتل باسيل ووزراؤه لبنائها، وحرموا الشعب اللبناني بسبب الجشع والطمع والحقد والعنصرية من أي حلّ لأزمة الكهرباء المزمنة، وكبدوا الخزينة مئات ملايين الدولارات على البواخر ولوازمها، خصوصاً وأن ملكية العقارات موضوع الاستملاك في مشروع محطة سلعاتا تعود لمقربين من التيار العوني، والنصف الآخر يعود إلى شركة «ميكادا» التي لا سجل تجارياً لها، إذ إن صلاحيتها منتهية منذ العام 2017، «الغش» أو الذي تمّ التسويق له لسنوات من وراء محطة سلعاتا من قبل وزراء الطاقة المتعاقبين، جدواه، قيمة الاستملاكات، وأمور فنية أخرى تؤكد وجود صفقة مشبوهة.
خطوة الحكومة دفعت النائب السابق وليد جنبلاط للتغريد «حسم مجلس الوزراء في عملية التصويت لصالح معملين واستثناء سلعاتا امر يوفر مبالغ طائلة على الخزينة لكن تفويض الوزير بالتفاوض قد ينسف الامر. والغريب لماذا لا يلغى عقد دير عمار مع الشركة الخماسية والعجيب تنوع الاختصاص لوزيرتين عدل وكهرباء ودفاع وكهرباء».
محق جنبلاط في سؤاله عن عقد معمل دير عمار، الذي تمّ تلزيمه بطريقة ملتوية منذ أكثر من سنتين، من دون تنفيذ أي خطوة، بل إن الشركة التي نالت العقد أشبه بشركة وهمية لناحية الخبرة والكفاءة والتجرية، ثم ماذا عن صفقات البواخر التركية، والطمع باستقدام المزيد منها (تكلفتها حوالى 1.8 مليار دولار)، ولماذا تمّ تعطيل محاولات استخدام الغاز في معملي الذوق والزهراني.. وبعد كل ذلك يأتي «الوزير السابق» ليتحدث عن صفقات الفيول المغشوش، متناسياً دور وزير الطاقة في توقيع العقود، وتجديدها وفي صرف الأموال؟
بالعودة إلى قضية استيراد الفيول المغشوش من شركة «سوناطراك» الجزائرية وتحقيق أرباح غير مشروعة، التي طفت فجأة على سطح الأحداث وتحولت إلى مادة لتصفية الحسابات السياسية، تطرح أسئلة مشروعة عن توقيت هذه الخطوة ومن يقف وراءها وغاياتها، ذلك أن ذهنية الفساد السياسي للطبقة الحاكمة، مع أدواتها الخاصة للتسويق والدعاية، تستطيع إلهاء الرأي العام تارة بتحويل شركات عملاقة إلى شركات وهمية، أو تحويل شركات تجارية ناجحة إلى سارقين، بعدما أوصلوا لبنان إلى دولة مفلسة وكاذبة وساقطة.
حسناً فعل الوزير السابق سليمان فرنجية خلال مؤتمره الصحافي الأخير، رداً على استدعاء صاحب إحدى الشركات على خلفية ملف الفيول المغشوش، بالقول إن ثمة فرقاً بين القضاء والعدالة، وأن الاستدعاءات أحياناً لا تبغي أكثر من إهانة المستدعى، وإذلاله، وتعريته أمام الرأي العام، حتى لو ظهرت براءته لاحقاً، لأن المقصد الخبيث يكون قد حصل. من يتذكر فترة رواج اتهامات الإرهاب قبل سنوات. كم من شخص وبينهم موظفون جرى توقيفهم وتلفيق التهم والأكاذيب بحقهم، ثم ثبت العكس لكن التهم والتدمير المعنوي استمر. هنا، وفي لحظة نشاط مغردين وصحافيين وغيرهم على تقمّص أدوار القضاء والمحققين والأجهزة… من يضمن أن ما يتم نشره هو بهدف خدمة العدالة والمال العام؟ ولماذا تفوح رائحة تصفية حسابات سياسية وتجارية من ملف النفط ومشتقاته؟ ثم لماذا تتوجه الأنظار إلى موظفين وشركات في وقت المطلوب الذهاب إلى أعلى الدرج والتحقيق مع الوزراء الذين وقّعوا عقود الاستيراد وجددوها؟ ألا يتحمل من استلم وزراة الطاقة لأكثر من عشر سنوات مساءلة وزرائه في هذا الملف؟
لا شيء يدعو للتفاؤل في لبنان. عهد بائس، وحكومة مربكة، وسلاح مهيمن.. ثم يأتي من يحدثك عن قضاء نزيه، وعن مكافحة الفساد ووقف التهريب وضبط الحدود واستعادة الأموال المنهوبة!!!
قبل أن يرى اللبنانيون «الفاسد الأكبر» في ملف الفيول والكهرباء ومشتقاتهما في السجن، هو وزمرته، لن يصدقوا أن محاربة الفساد في هذا الملف جدية. يوم يحصل ذلك يمكن استدعاء اَي كان من دون خوف من تسييس أو انتقائية أو انتقام، ويمكن أيضاً الحديث عن استعادة الثقة بلبنان ودولته، من اللبنانيين أولاً ومن دول العالم والمؤسسات الدولية ثانياً. وحتى ذلك الوقت، لا ضير في تضييع بعض الوقت بالاستماع إلى مؤتمرات صحافية فارغة.