ما إن وصلت أنباء إرتفاع سعر النفط عالمياً حتى عادت الطوابير أمام محطات الوقود، وأعادت إلى الذاكرة صوراً أليمة ما زالت محفورة في الأذهان تعبّر عن مأساة شعب يفقد كل يوم مقومات حياة كريمة. صحيح أن الأسباب الكامنة وراء عودة هذه الظاهرة تختلف اليوم عما كانت عليه في الصيف الماضي، حينما استفحلت أزمة الوقود نتيجة أزمة السيولة التي ضربت القطاعين المصرفي والمالي، ولكن الصحيح أيضاً أن هناك خللاً هيكلياً لم يعالج بعد ويتعلق بعملية تحديد الأسعار الذي ما زال منوطاً بوزارة الطاقة. هذا الأمر لم يعد له أي مبرر ويتنافى مع أبسط قواعد الإقتصاد الحر ومعايير الشفافية ومتطلبات حماية المستهلك.
والواقع أن هذا الخلل البنيوي، أي تحديد الأسعار من قبل الوزارة، ينعكس خللاً قي حركة السوق لأنه يعيق إنسياب عملية العرض والطلب؛ فيخلق إختناقات، يتسبب في تخزين التجار للمواد قبل إصدار المؤشر، كما ويؤدي إلى تهافت المستهلكين على محطات المحروقات في محاولة لاستباق إرتفاع الأسعار وتحقيق شيء من الوفر. لنقلها بوضوح، مادة المحروقات كأي مادة إستهلاكية أخرى تحدد سعرها عملية العرض والطلب. وهي عملية تتم بشكل آني وشفاف، هذا طبعاً إذا تأمنت كافة شروط المنافسة وتبادل المعلومات المتعلقة بالأسواق من دون قيود. هكذا يتفاعل السوق المحلي مع السوق العالمي وتتحدد الأسعار.
دخول طرف ثالث، اي الوزارة، في هذه العملية يعيق فعاليتها خاصة لجهة المستهلك. الوقت المستقطع قبل صدور مؤشر الأسعار هو وقت يحاول فيه كل من التاجر والمستهلك أن يحسّن مكاسبه، وغالباً ما يكون لصالح التجار والكارتيلات، كيف لا وهم الجهة النافذة المرتبطة مع الطرف المعني بتحديد الأسعار. كان لهذا الدور مبرراته، طالما كان هناك دعم حكومي للمحروقات. أما اليوم وقد رفع الدعم فلم يعد هناك أي ذريعة للإبقاء على هذا الدور. هناك من يقول إن لا بد من الإبقاء عليه من أجل حماية المستهلك. هذا المنطق يعني عملياً، أن على الدولة أن تتحمل فارق الأسعار في حال ارتفعت، أي عملياً العودة إلى سياسات الدعم التي أرهقت الخزينة وساهمت بشكل كبير في انهيار العملة الوطنية.
حماية المستهلك لا تكون إلا بإطلاق المنافسة، إستقامة عملية العرض والطلب وتحرير السوق بشكل كامل. وحدها هذه العوامل مجتمعة تقطع الطريق على المحتكرين والكارتيلات. نظرياً، السلطة التي أقرت قانون المنافسة منذ أيام، يجب أن تكون أدركت هذه الحقيقة. كما ويجب أن تكون أدركت كم كانت كارثية على الإقتصاد، والقدرة الشرائية للمواطنين، سياسات الدعم التي بعدما أرهقت الخزينة قضت على ودائع اللبنانيين ومدخراتهم. وقد تكون هذه الأزمة المناسبة الأولى لإدخال قانون المنافسة حيز التنفيذ مع كل ما يتطلب ذلك من خطوات تنفيذية بدءاً برفع يد وزارة الطاقة عن عملية تحديد الأسعار.