تشابكت مصالح كل من المملكة العربية السعودية وروسيا في الملف النفطي، حيث عمدتا إلى تخفيض إنتاجهما من النفط، بشكلٍ رفع أسعار برميل النفط إلى مستويات عالية أصبحت تُشكّل خطرًا حقيقًا على النمو الإقتصادي العالمي. بالطبع تقاطع المصالح بين روسيا من جهة والمملكة العربية السعودية من جهة أخرى، لا يعني تطابق الرؤية السياسية والإقتصادية بين الدولتين. فروسيا تُصارع لكي تستطيع الإستمرار في ظل إستنزاف مالي وعسكري قاتل، نتيجة الحرب الروسية – الأوكرانية، في حين أن المملكة العربية السعودية أظهرت للعالم أجمع، وبالتحديد لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، أن المملكة رقم صعب في المعادلة الإقليمية وحتى الدوّلية.
وبغض النظر عن البعد الجيوسياسي لإرتفاع أسعار النفط العالمية، أخذ هذا الإرتفاع بإلقاء ثقله على نمو الإقتصاد العالمي عامّة والأميركي خاصة. فالنفط هو سلعة إستراتيجية يدخل في تصنيع وتعليب ونقل ما لا يقلّ عن 95% من السلع والبضائع والخدمات التي تُحيط بنا. وبالتالي، فإن إرتفاع أسعار النفط العالمية سترفع حكمًا الكلفة على الشركات التي ستحوّلها إلى المستهلك النهائي، مما يعني إرتفاع الأسعار عامّة – أي التضخّم.
المُشكلة التي فرضتها مُعادلة خفض الإنتاج النفطي من قبل كلٍ من المملكة العربية السعودية وروسيا، أصابت بالصميم إجراءات الإحتياطي الفديرالي الأميركي، الذي رفع الفائدة إلى مستوايات عالية (5.25%) لمكافحة التضخّم. وبالتالي، فإن خفض الإنتاج النفطي سيؤدّي إلى إرتفاع الأسعار ومعها التضخّم، وهو ما سيُقلّص من قدرة الإحتياطي الفديرالي على رفع الفائدة خوفًا من تسريع الركود الإقتصادي.
عمليًا، تُشير خارطة الإنتاج العالمي للنفط إلى أن هناك ثلاث منتجين رئيسيين للنفط: الولايات المُتحدة الأميركية مع 11.6 مليون برميل في النهار، روسيا مع 10.5 مليون برميل في النهار، والمملكة العربية السعودية مع 10.2 مليون برميل في النهار (أرقام العام 2023). بالطبع هناك دول أخرى مثل كندا والعراق والصين والإمارات العربية المُتحدة والبرازيل والكويت وحتى إيران، التي تُنتج كمّيات مُهمة بالنسبة للسوق، وتلعب دورًا في توازن العرض والطلب. من هنا تُطرح الأسئلة عن الإستراتيجية الأميركية تجاه إيران، التي أصبحت لاعبًا مُهمًا (تحتل المرتبة العاشرة عالميًا) في هذه اللعبة العالية الأهمّية.
إلا أن المُشكلة الأكبر بالنسبة للولايات المُتحدة الأميركية، تبقى في وقود الديزل المُستخدم في الصناعة والنقل بشكلٍ كبيرٍ، والذي تعجز مصافي التكرير في العالم على إنتاج ما يكفي منه، مما يعني حرمان الإقتصاد من الوقود الأساسي للصناعة والنقل في آنٍ معًا. هذا العجز الآتي بالدرجة الأولى من نقص الإنتاج، لكن أيضًا من المنافسة داخل مصافي التكرير بين أنواع المحروقات، رفع أسعار الديزل في الولايات المُتحدة الأميركية إلى مستويات عالية (140 دولارًا)، وكذلك الأمر في أوروبا التي شهدت إرتفاعًا في الأسعار بلغ ستون بالمئة خلال فترة الصيف. وزاد الطين بلّة قرار المملكة العربية السعودية وروسيا بحظر إنتاج النفط الخام الغني بالديزل، مع توقّعات بأن يمتدّ هذا الحظر وتقليص الإنتاج إلى ما بعد نهاية هذا العام. أضف إلى ذلك أن عددًا من مصافي التكرير في العالم توقّفت عن العمل، نتيجة جائحة كورونا أو لأسباب ربحية، وهو ما قلّص إنتاج الديزل. هذا الأمر دفع الدول وعلى رأسها الولايات المُتحدة الأميركية إلى المسّ بإحتياطاتها لتلبية الطلب الإقتصادي، خصوصًا خلال الصيف. إلا أن إستمرار الوضع على ما هو عليه، سيؤدّي بدون أدنى شكّ إلى إضعاف إحتمالات تخطّي الركود الإقتصادي في الولايات المُتحدة الأميركية، وهو ما سيكون له تداعيات سياسية في الداخل الأميركي، نتيجة قرب الإنتخابات الرئاسية. فالمنافسة في مصافي التكرير بين الديزل والمحروقات الأخرى سيرفع أسعار البنزين (مثلًا) والديزل المُستخدم في عمليات النقل، أي إرتفاع أسعار السلع والبضائع، خصوصًا أن هناك توقّعات لإرتفاع الإستهلاك إلى مئة ألف برميل بحسب وكالة الطاقة الدولية.
هذا الواقع سينعكس على الساحة اللبنانية، مع إستمرار إرتفاع أسعار المحروقات من باب إرتفاع أسعار النفط العالمية، أو من باب منافسة المحروقات الأخرى في مصافي التكرير. من هذا المُنطلق، من المتوقّع أن نشهد إستمرارًا في إرتفاع أسعار المحروقات في لبنان، في ظل ضغط إقتصادي خانق سيقوّض كل جهود حكومة تصريف الاعمال لإعادة موظّفي القطاع العام إلى أماكن عملهم، وسيضع موازنة العام 2024 في عجز إضافي. أضف إلى ذلك، سيعمد التجّار بدون أدنى شكّ إلى رفع أسعار السلع والبضائع بحجّة إرتفاع كلفة النقل، وهو ما سيؤدّي إلى رفع التضخّم في لبنان، خصوصًا في الثلاث قطاعات الأساسية أي المحروقات والأغذية والأدوية.
من هذا المُنطلق، نرى أن على حكومة تصريف الاعمال وضع خطط لمواجهة هذا الواقع المرير الذي سيدفع ثمنه المواطن، من خلال عدّة خطوات مثلًا (على سبيل الذكر وليس الحصر):
– شراء عقود أجلة على النفط في ظل التوقعات بإستمرار إرتفاع الأسعار عالميًا.
– أخذ إجراءات تحفيزية للتخفيف من إستهلاك المحروقات في لبنان، لدفع المبادرة الفردية إلى إستخدام الطاقات المُتجدّدة في كل القطاعات المُمكنة إستخدامها فيها.
– تحفيز إستخدام السيارات الكهربائية وغيرها.
– إجراء الإصلاحات الإقتصادية الضرورية لتحفيز الصناعة المحلّية.
– تقليل الإعتماد على الإستيراد عبر وضع خطّة شبيهة بتلك التي إعتمدتها كوريا الجنوبية بُعيد خروجها من الحرب الأهلية.
إلا أنه وفي ظل إنسداد الأفق السياسية، من المُستبعد أن تعمد الحكومة (وهي حكومة تصريف أعمال) إلى أخذ أية إجراءات، نظرًا إلى الإنقسام الحاد الحاصل.