كلهم كانوا يعلمون بتوجّه حاكم مصرف لبنان لرفع الدعم كلياً عن المحروقات، لكنهم تفاجأوا بجدية إقدامه على اتخاذ هكذا قرار وذلك بهدف استيعاب غضب الشارع. فليس المطلوب اليوم العودة الى الوراء إنما السير الى الامام بخطوات مكمّلة ليكون وَقعها أخَف وطأة على اللبنانيين.
أمضى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عاماً بكامله وهو يُناشد فيه السلطة اتخاذ إجراءات محددة كبديل من خطة الدعم التي لن تستمر الى الأبد، وصرّح مراراً وتكراراً انه لا يمكن الَمس بالتوظيفات الإلزامية بالعملات الأجنبية لديه، الّا انّ أحداً لم يتحرك لا بل بادَرت السلطة الى تشريع خفض الاحتياطي الالزامي الى 14 مليار دولار واستعماله لدعم المحروقات والأدوية والقمح، وخلال كل هذه المدة كان التهديد بالتوقّف عن صناعة الخبز قائماً، وكانت الادوية مفقودة من الأسواق، والمرضى يموتون في منازلهم بِسكون، والمستشفيات تحذّر من النقص في المعدات والمستلزمات الطبية، والأطفال يفتقدون اللقاحات والأدوية وأبسطها ما يتعلّق بخفض الحرارة. امّا المحروقات فحدّث ولا حرج، ورغم انها استحوذت على 60 % من حجم الدعم فلا مازوت ولا كهرباء ولا بنزين… والأسوأ انّ التهريب ماشي والتخزين ماشي، في ظل غياب أي إجراءات صارمة من القوى الأمنية تطال كل المناطق وكل التجّار المحتكرين والمهربين من دون استنسابية.
اليوم، وبعدما تحرّك سلامة استفاقَت الدولة من غيبوبتها وهبّت بحثاً عن حلول، والأجدى سؤالها ماذا فعلت كل هذه المدة؟ وما الذي حال دون ان تتخذ ولو قراراً جريئاً واحداً للانقاذ او الحد من التدهور او مكافحة التهريب الذي سَرّع الانهيار؟ الجواب ببساطة: لا شيء، على الأقل قرار سلامة حَثّها على الاجتماع أمس للمرة الاولى بعد عام على استقالتها.
صحيح انّ اللبنانيين بأجمعهم غير قادرين على تحمّل عبء ارتفاع أسعار المحروقات بعد تحرر سعرها، إنما يبقى افضل من التفَرّج على ما تبقى من أموالهم تذهب الى جيوب التجار والمحتكرين والمهربين، فلقد حان الوقت للانتقال بالأزمة الى مرحلة جديدة تترافق مع خطوات تكميلية مساعدة تُساند في تخطّي المرحلة المقبلة، تبدأ خصوصاً، ببدء عمل البطاقة التمويلية بعد أكثر من عام على إعدادها.
وبعد الضجة التي أثارها قرار حاكم مصرف لبنان رياض بتحرير سعر المحروقات، عاد امس وأصدر بياناً ذكّر فيه «بأن مصرف لبنان كان قد راسَل الحكومة منذ شهر آب 2020، أي منذ حوالى السنة»، مؤكداً أنه «لا يمكن قانوناً المساس بالتوظيفات الالزامية بالعملات الأجنبية لديه، وقد أكّد ذلك مرارا بمراسلات اخرى وفي كافة الإجتماعات التي عقدها مع المراجع المعنية بسياسة الدعم».
وأكّد البيان أنّ «المساس بهذه التوظيفات يتطلب تدخلاً تشريعياً. في المقابل، وعلى رغم أنّ مصرف لبنان قد دفع ما يفوق 800 مليون دولار للمحروقات في الشهر المنصرم، وانّ فاتورة الأدوية وغيرها من المواد الضرورية قد تضاعفت، فلا تزال كل هذه المواد مفقودة من السوق وتُباع بأسعار تفوق قيمتها حتى فيما لو رُفع الدعم عنها! ما يثبت ضرورة الانتقال من دعم السلع، التي يستفيد منها التاجر والمحتكر، إلى دعم المواطن مباشرة وهو الأمر الذي يحفظ كرامة المواطنين في ظل هذه الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد».
خطوات رفع الدعم
في هذا الاطار، اعتبر الاقتصادي روي بدارو انّ رفع الدعم كان مطلوباً من 3 سنوات، ولو رُفع في حينها لَما وصلنا الى ما نحن عليه اليوم. وأوضح لـ»الجمهورية»: انّ هذا القرار وضعَ الشعب اللبناني بين خيارين السيئ والاسوأ، فخيار الإبقاء على الدعم يعني مواصلة استنزاف الاحتياطي الالزامي وصولاً الى مرحلة تنتهي فيها الأموال، فما العمل عندها؟ كما انّ سلوك هذا الخيار هو بمثابة إعطاء نفس للمنظومة الحالية. أضاف: صحيح انّ الوجع كبير جداً، لكن برأيي هو ضروري جداً للتخلّص من هذه المنظومة وليتضح سوء ادارتها للحياة الاقتصادية في لبنان.
أما عن تداعيات هذا القرار من الناحية الاقتصادية، فيقول بدارو: لقد أعدّ المجلس الاقتصادي منذ حوالى العام الخطوط الكبرى لمعالجة الأزمة، إنما للأسف اتخاذ القرارات بيد وزير الاقتصاد ومجموعة من الوزراء الذين أحجَموا عن اتخاذ قرار انقاذي واحد، لا بل كانوا داعمين لعدم رفع الدعم ولإعطاء اوكسجين للمواطنين من ثم قطعه نهائيا.
وعن الخطوات الواجب ان تترافق مع قرار تحرير أسعار المحروقات ركّز بدارو على 3 نقاط أساسية، هي: أولاً: يجب ان يُستَتبع رفع الدعم عن المحروقات بقرار يقضي بتصحيح الحد الأدنى للأجور، والذي يجب ان يتراوح ما بين 125 و150 دولاراً، يُدفع بالليرة اللبنانية كل نهاية شهر إنما وفق سعر صرف السوق الموازي. ورأى ان من شأن هذه الخطوة ان تخفف من نسبة العاملين بالحد الأدنى للأجور الحالي، وفي الوقت نفسه يتأمّن الاوكسجين لكل الاقتصاد ليُعاود نشاطه في حال حصل أي تغيير في السياسة الحالية.
ثانياً: السير بالبطاقة التمويلية لحوالى 500 الف عائلة لمدة سنة على الاقل ريثما يحصل تصحيح للاقتصاد، مشدداً على انّ المنظومة الحالية غير قادرة على إجراء التصحيح الاقتصادي المطلوب لأنها لا تملك الكفاءة ولا النيّة. أضاف: إنّ أكثر مَن يتوجّع في هذه الظروف هم الطبقة الفقيرة، والذين لا يتجاوز راتبهم الحد الأدنى للأجور والعاطلين عن العمل، وخصوصاً المتقاعدين الذين يجب إيجاد حل لهم.
ثالثا: ضرورة السير بقانون المنافسة، بحيث انّ تَوفّر أي سلعة في السوق يأتي وفقاً لمصلحة التاجر والمستهلك والمستورد وليس طرفاً واحداً من الثلاثة.
وردا على سؤال، اعتبر بدارو انه لتجنّب الدخول في دوامة التضخم يجب اعتماد exchange rate pass-through، وهنا نتحدث عن آلية انتقال الأسعار من سعر الصرف الى سعر المبيع، إذ لتجنّب التضخم وارتفاع الأسعار يجب خَفض سعر صرف الليرة الذي هو اليوم غير منطقي ويتم التلاعب به، وخفضه يرتبط خصوصاً بالثقة.
زيادة الرواتب
وعمّا اذا كان القطاع الخاص قادراً على دفع زيادات للموظفين؟ قال: انّ عدداً لا يُستهان به من الشركات دفعت زيادات للموظفين، اما الشركات غير القادرة على ذلك وتكتفي بإعطاء راتب 40 دولارا لموظفيها فمن الأفضل لها ان تُقفل.
اما بالنسبة الى القطاع العام، والذي تقدّم وزير المالية بطلب سلفة خزينة بقيمة (ستماية مليار ليرة لبنانية) تساوي أساس راتب شهري واحد وتدفع على دفعتين، كمساعدة اجتماعية لموظفي وأجراء الإدارات العامة، قال بدارو: انّ السلفة لا تحلّ مأزق الأجور، المطلوب اليوم إيجاد حل للقطاع العام أكان بأعداده المضخّمة، وبأدائه، وبتعويضات نهاية الخدمة والّا فهو غير قادر على الاستمرار بهذه الاعداد الهائلة.