ما أن بدأ اللبنانيون يتجاوزون أزمة طوابير الذلّ، حتى عاد شبح انقطاع البنزين يلوح في الأفق. وهذه المرّة بسبب اختلاف المحطات والوزارة على تسعير الصفيحة. فأصحاب المحطات يشكون من أنّ الموزعين يُلزمونهم بدفع قسم من ثمن البنزين بالدولار، بينما هم مجبرون على بيعه بالليرة للمستهلك، وهذا ما يجعل عمولتهم عرضة للخطر في ظلّ تقلب سعر صرف الليرة مقابل الدولار بشكل يومي.
تبدأ وزارة الطاقة اعتبارا من الاسبوع المقبل باصدار جدول يومي لاسعار المحروقات بما يتماشى مع التقلبات المتسارعة لسعر الصرف في السوق الموازي، على ان تلحظ التسعيرة اما هامش ربح اضافي لمستوردي المحروقات بما يحفظ حقهم اذا ما سجل الدولار ارتفاعا ملحوظا خلال النهار، اما ان تلحظ تسعيرة اليوم التالي تقلبات الدولار التي شهدها سعر الصرف في اليوم السابق. وفي كلا الحالين ستكون اوضاع التجار مصانة في غياب اي حماية للمستهلك.
وفي هذا السياق يوضح الباحث الاقتصادي والقانوني في المعهد اللبناني لدراسات السوق كارابيد فكراجيان، انّ آلية التسعير التي تعتمدها وزارة الطاقة تتشكّل من بنود عدة هي: ثمن المادة العالمي والرسوم والضرائب وعمولة النقل وصاحب المحطة. ويقول لـ «الجمهورية»، انّ «أساس المشكلة يكمن في عدم ملاءمة هذا الأسلوب بالتسعير واقع السوق الحقيقي، لاسيما وأنّ الوزارة تعتمد سعر صرف الدولار على منصّة صيرفة لاحتساب ثمن البنزين بالليرة اللبنانية، في حين انّ سعر صرف الدولار في السوق السوداء يفوق سعر المنصة. وفي حال أمّن المركزي الدولار للمحطات على سعر منصة صيرفة تستمر سياسة الدعم ولو بشكل مقنّع، وإن لم يؤمّنه نكون أمام سياسة تحديد أسعار من قِبل الوزارة تئرض على المحطات تحمّل الخسائر».
ورأى «أنّ المشاكل الناتجة من حصر تسعير المحروقات في وزارة الطاقة ليست وليدة الأزمة. إذ لطالما كانت المحطات في كباشٍ مستمر مع الوزارة في هذا الخصوص، لافتاً الى انّ المحطات أضربت أكثر من مرّة عند انخفاض سعر المحروقات عالمياً».
واعتبر فكراجيان «انّ طرح تأمين المحروقات للمحطات بالليرة اللبنانية أو بالدولار على سعر منصة صيرفة غير مجدٍ أبداً، وهو غير ممكن عملياً، كونه يتطلب تدخّلاً اضافياً من المصرف المركزي الذي يعاني أصلاً من تضاؤل احتياطه، حيث خسر على منصة صيرفة منذ اطلاقها في تموز الماضي أكثر من نصف مليار دولار، وهذا الرقم مرجّح للارتفاع بوتيرة متزايدة مع استمرار تسارع انهيار سعر الصرف. كما أنّ انهيار سعر الصرف يسبق جداول التسعير، وبالتالي يبقى الفارق بين سعر الصفيحة عند التسعير وعند البيع قائماً، وتبقى عملية إعادة شراء المحروقات تأكل رأسمال أصحاب المحطات».
وأكّد أنّ «أسوأ طرح هو إدخال زيادة كبيرة على سعر المازوت والبنزين بشكل يضمن فيه تحقيق المحطات الأرباح، في حال ارتفع سعر صرف الدولار، لأنّ هذه الخطوة تحقّق ربحاً وفيراً للمحطات القادرة على التخزين، بيد أنّها تحمّل المواطن أعباء إضافية. وقبول وزارة الطاقة بهذا الطرح يعني أنّ تجار المحروقات هم الهَمّ الأول لديها».
وشدّد على «ضرورة توحيد عملة المحروقات استيراداً وتوزيعاً، والسماح للمحطات ببيع المحروقات بالدولار، لأنّ هذه الخطوة تعالج قسماً كبيراً من مشاكل البنزين، فهي تحلّ مشكلة أصحاب المحطات المتمثلة بتآكل ربحهم نتيجة فرق سعر الصرف، وتغلق أحد مزاريب الهدر، ألا وهو تأمين الدولار للمستوردين على سعر منصة صيرفة، لاسيما أنّه لا أحد سوى المحظيين يعرف كيف ومن يستفيد من هذه المنصة. وعليه تصبح كل محطة تبيع البنزين بالدولار النقدي أو حسب سعر السوق. وهذه الخطوة باتت أسهل مع دولرة قسم كبير من أجور الموظفين».
واعتبر فكراجيان «أنّ تسعير المحروقات بالدولار لا يعالج كل مشاكل قطاع المحروقات، لأنّ جوهر المشكلة هو أنّ سعر المحروقات يُحدّد من قِبل وزارة الطاقة التي تبقى تحت ضغط نقابات تجار المحروقات، أي أنّ المستهلك خارج المعادلة كلياً. والخطوة الصحيحة هي تحرير التسعيرة بشكل كامل، بحيث يكون استيراد المحروقات وبيعها مثل استيراد وبيع أي سلعة أخرى في السوق، يختار البائع النوعية والسعر لعرضها، ويختار المستهلك أي بائع يريد التعامل معه. ويدفع تحرير سعر المحروقات تجار المحروقات للتنافس في ما بينهم على استقطاب الزبائن، بدلاً من التكاتف للضغط على الحكومة والحصول على منافع خاصة، على حساب المودعين تارة وعلى حساب المستهلكين طوراً. وأبسط الأمثلة، هو ما حصل عند دعم البنزين، بحيث استفادت بعض المحطات، في حين مُني الكثير منها بخسائر، كذلك شلّت الأعمال في البلاد». وشدّد على ضرورة أن يرافق تحرير السعر تحرير استيراد المحروقات وتوزيعها، كي لا تتمكن الشركات الحالية من احتكار السوق، لافتاً الى انّ عملية تحرير الاستيراد سهلة جداً، وكل ما تحتاج اليه هو رفع العراقيل الاستنسابية، والحاجة إلى شروط مسبقة، مثل سعة التخزين للاستيراد وتراخيص المحطات وغيرها.
أضاف، أنّه «يمكن للحكومة أن تدعم سعر صفيحة البنزين بنسبة 11% إن ارادت، وذلك عبر رفع ضريبة القيمة المضافة عن صفيحة البنزين، ما يريح المواطن دون أي هدر لاحتياطي العملات الأجنبية لدى المركزي ودون خطر عودة أزمة المحروقات».
وختم: «بين مطالب أصحاب المحطات والحلول الترقيعية، ينتظر المواطن اللبناني في حيرة من أمره، بانتظار حل يخرجه من حالة الخوف المستمر من فقدان أبسط السلع اليومية».