مرحلة جديدة يدخلها لبنان متخفّفاً من “حِمل” الدعم ومثقلاً بأعباء ارتفاع الأكلاف الإنتاجية
تضميد “جرح” دعم المحروقات “النازف” بعدما صفّى الاقتصاد “دولاراته”، يطرح سؤالاً أساسياً عن مخاطره وانعكاساته السلبية على وظائف البلد الحيوية. فاذا كان للبد من وقف هدر العملة الصعبة، فان “تقطيب” الجرح على عيبه ومن دون معالجته بـ”مضادات” الانكماش، قد يخلق مضاعفات أشد فتكاً على مختلف القطاعات الانتاجية والخدماتية.
الحجة الوحيدة التي سيقت منذ منتصف العام 2019 ولغاية 1 تموز 2021 لابقاء الدعم على المحروقات، كانت عدم توفر البديل المتمثل بالدعم المباشر. إلا أنه في المقابل جرى رفع أسعار المحروقات من تموز الفائت ولغاية اليوم بنحو 500 في المئة، من دون أن يظهر هذا البديل الموعود. الأمر الذي يقود إلى استنتاجين لا ثالث لهما:
الأول، أن الهدف من عملية دعم المحروقات، التي كلفت ما لا يقل عن 9 مليارات دولار بين الأعوام 2019 و2021 لم يكن حماية الاقتصاد والسكان، بل تحقيق مصالح كبار التجار والمهربين. ذلك أنه لو رفع الدعم مطلع العام 2020 لكانت أسعار المشتقات النفطية أقل بكثير مما هي عليه اليوم حتى مع وجود “بقايا” الدعم، ولكنا وفّرنا مبلغاً طائلاً سُحب من أموال المودعين، انعكس تضخماً على الاقتصاد.
الثاني، أن التحجج بالبطاقة التمويلية لم يكن إلا تمويهاً، الغرض منه تحقيق الهدف الأول.
النتائج السلبية
صحيح أن رفع الدعم عن المحروقات سيخفف من التهريب إلى سوريا والتخزين وغياب الطوابير من أمام المحطات، إلا أنه سيخلق في المقابل “نتائج سلبية على سعر صرف الليرة، الاقتصاد والمجتمع”، بحسب الباحثة الاقتصادية د. ليال منصور. و”سيؤدي إلى رفع كلفة الانتاج، المتضخمة أصلاً، وتخفيض قدرة البضائع اللبنانية على المنافسة في الداخل والخارج. فكلفة الانتاج في لبنان كانت تعتبر من الأعلى عالمياً عندما كان سعر صرف الدولار 1500 ليرة، والكهرباء مؤمنة 12 ساعة في 24. فكيف الحال اليوم في ظل سعر ضرب بـ16 وانعدام وجود الكهرباء؟”.
في العادة، ومن الناحية الأكاديمية، ترتبط الواردات بعلاقة عكسية مع الناتج المحلي. أي أنه كلما زادت الواردات كلما انخفض الناتج. إلا أنه في لبنان أثبتت دراسة بحثية علمية عن أن العلاقة بين الواردات والصادرات والنمو الاقتصادي مختلفة. إذ إنه “كلما زادت الواردات كلما زاد الناتج القومي بسبب ارتفاع القدرة على رفع الصادرات”، تقول منصور، و”عليه لا يمكن للبنان التصدير إن لم يستورد المواد الأولية وفي مقدمها المحروقات. فالاخيرة تدخل في صلب عملية الانتاج نظراً للحاجة إلى توليد الكهرباء، وتؤثر بشكل هائل على كلفة نقل البضائع، وتنقل الأشخاص إلى أعمالهم في القطاعين العام والخاص، واللذين بدورهما يرفعان كلفة الانتاج والخدمات”.
ماذا يعني هذا الواقع المستجد؟
“ضرب القدرة الانتاجية من الناحية الاقتصادية، وزيادة الطلب على الدولار من الناحية النقدية”، برأي منصور. و”بدلاً من أن يؤدي رفع الدعم إلى انخفاض سعر صرف الدولار بسبب توقف مصرف لبنان عن استعمال التوظيفات، سيزيد الطلب على العملة الصعبة مما يؤدي إلى موجة جديدة من ارتفاع سعر الصرف”. وبرأيها “يخطئ من يفكر أن ارتفاع الاسعار سيؤثر بنسبة كبيرة على الاستهلاك وبالتالي تراجع الطلب على الاستيراد ومن خلفه الدولار. ذلك أن انعدام البدائل عن البنزين والمازوت، لغياب كهرباء الدولة ووسائل النقل العامة يفقد هاتين السلعتين مرونتهما. أي أن ارتفاع سعرهما لا يؤثر سلباً على حجم استهلاكهما بنسبة كبيرة، ذلك أنه لا يوجد لهما أي بديل يدفع المستهلكين إلى إحلاله مكانهما. ومن الناحية الأخرى ترى منصور أن “ارتفاع أسعار مختلف المواد الغذائية والخدماتية لن يؤدي أيضاً إلى تراجع الطلب، ذلك أنه وصل إلى الحد الأدنى الكافي للعيش بسبب الأزمة التي تجر منذ أكثر من عامين، إنما إلى التفتيش عن البدائل المواد الأقل ثمناً، وهذا ما سيدفع إلى تدهور الوضع الاقتصادي أكثر وليس الدخول في مرحلة التصحيح الذاتي كما يعتقد البعض.
إذاً، كل هذه العوامل ستزيد الطلب على الدولار لسببين:
– مادي وهو يرتبط بحكم الاستمرارية للقطاعات العامة والخاصة والأفراد في ظل المزيد من موجات ارتفاع الاسعار، وتراجع الانتاجية.
– معنوي ويتعلق بالمخاوف من عدم الاستقرار وفقدان الثقة بالعملة الوطنية.
وفي الحالتين ندخل في مرحلة تعرف بـ”السببية المزدوجة” Dual causality من وجهة نظر منصور. “أي أن زيادة الطلب على الدولار تؤدي إلى ارتفاع سعر الصرف، وارتفاع سعر الصرف يؤدي إلى زيادة الطلب على الدولار. ذلك لأن لبنان “بلد مدولر”. وهذا يعطي دوراً كبيراً جداً للعوامل النفسية التي تؤثر على الطلب وبالتالي على سعر الصرف”.
الحل
أمام هذا الواقع الذي يفرض علينا من جهة رفع الدعم، ويؤثر من الجهة الأخرى سلباً على الاقتصاد، تعود منصور لتذكر بأهمية اعتماد حل من اثنين: الدولرة الشاملة أو مجلس تثبيت القطع Currency Board. فبعد سنوات من الدعم لم يعد بالامكان تصحيح الخطأ وكأن المشكلة وليدة اللحظة، أو من أن حلها يكون خلال إزالتها. وهذا يشبه إلى حد ما رفض تخفيض الرواتب والأجور في العام 2019 من بعد إعطاء سلسلة الرتب والرواتب في العام 2017. فتصحيح خطيئة “السلسلة” لا يكون بالغاء التقديمات المعطاة إنما باعتماد إجراءات أخرى لتخفيف الضرر. كأن تعمد الدولة مثلاً إلى فرض ضرائب على منتجات محددة. وذلك على غرار ما فعلت الدول الأجنبية للتعويض عن كلفة الدعم المعطى بسبب “الجائحة”، من خلال فرض ضريبة على الكماليات… وغيرها من الاجراءات. “كذلك الأمر اليوم بموضع المحروقات”، تقول منصور، فـ”الحل يكون بوقف ارتفاع سعر صرف الدولار من خلال إجراءات جذرية كاعتماد “مجلس تثبيت القطع”، الذي يفرض الاصلاحات فرضاً ولا يبقيها خياراً معلقاً. خصوصاً أننا قادمون في أمد ليس ببعيد على استحقاقات ملزمة تتمثل برفع الرواتب والاجور وبدل النقل”. فالمطلوب اليوم، بحسب منصور، “وقف نزيف الدولار ومن بعدها البدء بمرحلة جديدة من الاصلاحات في القطاع العام والمصرفي ومؤسسات الدولة والكهرباء وبقية القطاعات المحتاجة إلى إعادة هيكلة وإصلاح”.
في الوقت الذي يحبذ فيه “صندوق النقد الدولي” تحرير سعر الصرف ورفع يد المصرف المركزي عنه لانه كان المسبب الأساسي في الفشل، تعتبر منصور أن “أهمية المفاوضات بين الدول والصندوق هي في التوصل إلى الحل الأنسب للبلد بعيداً من الوصفات المعلبة أو الجاهزة. فأزمة لبنان لا تشبه بقية الأزمات. فهي مصنفة من الثلاث الأقوى عالمياً منذ أواسط القرن التاسع عشر بحسب البنك الدولي. واحتلت المرتبة الأولى عالمياً من قبل “بلومبيرغ” على مستوى التضخم هذا العام. ولهذا الكل متفق على وقف تدخل مصرف لبنان بسعر الصرف، ولكن بدلاً من تحرير سعر الصرف فلنعتمد “نظام الربط الثابت”Hard peg. أي ربط الليرة بالدولار وعدم طباعة النقود إلا بقدر ما يدخل الاقتصاد من عملة صعبة. فمصر على سبيل المثال التي خاضت انجح مفاوضات مع صندوق النقد في العام 2016 وتتمتع باقتصاد غير مدولر ودينها بالعملة الأجنبية بالنسبة للناتج لا يذكر، انخفضت قيمة عملتها من حوالى 8 جنيهات مقابل الدولار إلى 19 جنيهاً بعد تحريرها. فكيف سيكون الأمر في لبنان في حال تحرير سعر الصرف؟ وما المدى الذي يمكن أن يصله الدولار مقابل الليرة؟ هذه الاسئلة التي لا نحصل على إجابات لها، تفرض علينا، برأي منصور، “اعتماد التثبيت القسري والحاد لسعر الصرف بدلاً من التحرير الشامل أو المتدرج”.
فهل يكون “الكي” بـ”الربط الثابت” هو آخر الداء بعد فشل الاتفاق على العلاجات الأقل ألماً؟ سؤال يستحق أن يسأل، حتى ولو لم يطبق. لأنه يفتح النقاش الجدي عن الخيارات الممكن اللجوء إليها لوقف استنفاد الطبقة السياسية لموارد الدولة، من خلال حلقة التوظيف الانتخابي والسيطرة على قطاع عام ضعيف وغير منتج واللتين تمولان من خلال طباعة النقود من قِبَل مصرف لبنان.