إذا كان من حسنة لاعتماد الحزب الجمهوري، على الرغم من الانقسامات والتجاذبات التي يعاني منها، دونالد ترامب مرشّحًا له للرئاسة الأميركية، فان هذه الحسنة تتمثل في انكشاف الولايات المتحدة. هناك هزالة أميركية ليس بعدها هزالة، على الصعيد السياسي طبعاً. يقول ترامب كلّ شيء عن الحاجة الى الامن والى ضرورة ان تكون أميركا «قوية»، لكنه ينسى انّ هناك مأساة لا شبيه لها في القرن الواحد والعشرين تتحمّل بلاده مسؤوليتها. هذه المأساة هي مأساة الشعب السوري الذي قبلت إدارة باراك أوباما بتشريده داخل سوريا وخارجها وان يحلّ به ظلم ليس بعده ظلم.
تحدّث ترامب في خطابه الطويل الذي القاه في كليفلاند (ولاية اوهايو) عن كلّ شيء. حاول تدوير الزوايا من اجل اقناع النساء والسود وأولئك الذين يتحدّثون الاسبانية (المهاجرون الآتون من دول أميركا اللاتينية) بالتصويت له. هؤلاء باتوا يشكّلون ثقلاّ كبيراّ على الخريطة الانتخابية للولايات المتحدة. خفّف من حدة لهجته تجاه المسلمين، بعدما كان يعتقد ان الحل بمنعهم من دخول الأراضي الأميركي، وحتّى تجاه المثليين. لكنّ كلّ كلامه يعكس نوعاً من الفراغ السياسي تعاني منه الولايات المتحدة.
في سياق هجومه على هيلاري كلينتون، بدا كأنّه نادم على صدّام حسين ومعمّر القذافي ورافض للاعتراف بواقع ان بشّار الأسد ونظامه صارا في مزبلة التاريخ وان السكوت عن هذه النظام اكبر خدمة تقدّم لـ»داعش» وكلّ ما له علاقة من قريب او بعيد بهذا النوع من التنظيمات الارهابية. حمّل كلينتون، بصفة كونها وزيرا للخارجية في الولاية الاولى لباراك أوباما مسؤولية كلّ المشاكل التي يعاني منها العالم حاليا، بما في ذلك مسؤولية توقيع الاتفاق في شأن الملف النووي الإيراني الذي عكس سذاجة، ليس بعدها سذاجة، لباراك أوباما والمحيطين به… او عداء ليس بعده عداء، او حقدًا ليس بعده حقد، لكلّ ما هو سنّي في المنطقة العربية. لم يلاحظ ان الاتفاق مع إيران لم يوقع عندما كانت كلينتون في الخارجية!
هل يصلح رجل لا يعرف شيئاً في السياسة يستطيع الانتقال من اقصى اليمين الى اقصى اليسار، رجل «متعجرف» و»لا يقرأ كتاباً« و»لا يستمع لاحد» على حد تعبير صحيفة «واشنطن بوست»، ان يكون رئيساً للقوّة العظمى الوحيدة في العالم؟
عفواً، يعرف ترامب كيفية إتمام الصفقات. هل يمكن للصفقات الناجحة، او الفاشلة في أحيان كثيرة، ان تجعل من رجل اعمال رئيساً للولايات المتّحدة؟
لا يخجل ترامب من تبديل مواقفه بين ليلة وضحاها. وعندما يواجه بالحقيقة وبان الكلام الذي قاله امس، وهو كلام موثّق، مغاير كلّيًا للكلام الذي يقوله اليوم، لا يأبه بذلك. يتصرّف وكأن من قال كلام الامس شخصًا آخر غير دونالد ترامب. فالرجل يعيش ليومه. انّه يستغلّ الجمهور الأميركي الجاهل بما يدور في العالم للوصول الى البيت الأبيض.
لا يخجل ترامب من أي امر، بما في ذلك استخدام زوجته عبارات مأخوذة من خطاب ألقته ميشيل أوباما في العام 2008 في اثناء الحملة الانتخابية لزوجها. استعادت ميلينيا ترامب العبارات كما هي، ثمّ ألقت اللوم في ذلك على من أعدّ لها الخطاب. هذا يدل بكل بساطة على عدم معرفة فريق ترامب بالناس من جهة وعدم امتلاك الرجل للحد الأدنى من السلوك الأخلاقي من جهة اخرى.
ما هي الحظوظ الرئاسية لدونالد ترامب؟
لا يمكن تجاهل هذه الظاهرة، التي اسمها دونالد ترامب، على الرغم من أنّ هيلاري كلينتون ما زالت متقدّمة عليه في كلّ الاستطلاعات، خصوصاً في ضوء عجز المرشح الجمهوري عن تحقيق وحدة حول شخصه داخل حزبه من جهة وعدم قدرته على تحقيق أي اختراق في صفوف الناخبين المتكلمين بالاسبانية او السود او لدى النساء عموماً والمثليين من جهة أخرى.
حرص الجمهوري تد كروز، الذي نافس ترامب على ترشيح الحزب، على رفض اتخاذ موقف من التصويت لترامب. خطب كروز في مؤتمر كليفلاند واعلن انه يترك للناخبين التصويت «كلّ حسب ما يمليه عليه ضميره». من الواضح، كما تقول «واشنطن بوست» أنّ هناك انقساماً داخل الحزب الجمهوري، تحوّل الى انقسام على الصعيد الأميركي. هناك في الواقع هوة عميقة باتت تفصل بين الأميركيين بعدما استطاع دونالد ترامب تسخيف السياسة والانتصار على كل خصومه معتمداً على الغوغائية ولا شيء غير ذلك.
هزلت السياسة في الولايات المتحدة الى درجة انّه باتت هناك فرص امام ترامب لدخول البيت الأبيض مستفيداً من ان هيلاري كلينتون لا توحي بالثقة لدى أميركيين كثيرين وذلك بعد التحقيق في قضية رسائلها الالكترونية. تبادلت كلينتون عندما كانت وزيرةً للخارجية رسائل ينطبق عليها طابع السرّية عبر البريد الاكتروني الخاص بها، وهو بريد غير مؤمن، كما حال العناوين البريدية الإلكترونية المعتمدة في الوزارة. صحيح ان لا ملاحقة قضائية تبعت ذلك، لكنّ الصحيح أيضاً انّ أميركيين كثيرين باتوا متحفّظين تجاه السيدة الاولى سابقاً.
في عالم يعيش في ظلّ الإرهاب الذي ضرب في الولايات المتحدة نفسها (جريمة اورلاندو) وفي انحاء مختلفة من أوروبا، خصوصاً في فرنسا وبلجيكا والمانيا، يسعى دونالد ترامب الى تحقيق معجزة وصول شخص جاهل تمامًا في السياسة الى سدّة الرئاسة الأميركية. ثمّة من سيقول ان رونالد ريغان سبقه في ذلك. هذا صحيح الى حدّ ما فقط نظرا الى ان ريغان استطاع قبل ان يصبح رئيساً للولايات المتحدة ان يكون حاكماً لكاليفورنيا طوال ثماني سنوات. وهذا ما اكسبه خبرة في الشؤون العامة، فضلاً عن انّه كان يعتمد على مساعدين يمتلكون حدًّا ادنى من الخبرة السياسية والتجربة. الاهمّ من ذلك كلّه، كانت لدى رونالد ريغان فكرة واضحة عن كيفية الانتصار في الحرب الباردة وكيفية الذهاب بعيداً في المواجهة مع الاتحاد السوفياتي الذي سمّاه «امبراطورية الشر».
ما أوصل أميركا الى ما وصلت اليه هو ذلك الفراغ الذي خلقه باراك أوباما الذي أراد الانتقام من جورج بوش الابن ومن سياساته. ارتكب بوش الابن كلّ الأخطاء الممكنة، خصوصاً في العراق. لكنّ معالجة هذه الأخطاء لا يكون باعتماد سياسة تقوم على السير في اتجاه معاكس تماماً لكلّ ما قامت به إدارة بوش الابن. شمل ذلك التفرّج على المأساة السورية والاستسلام امام إيران وروسيا بواسطة شخص اسمه جون كيري يصلح لكلّ شيء باستثناء ان يكون وزيراً للخارجية.
هذه ليست سياسة. هذه نكايات أدت الى مهزلة. من بين ما أدت اليه كارثة اسمها صعود دونالد ترامب الأقرب الى مهرّج من ايّ شيء آخر.
لعل الأخطر من ذلك كلّه ان لدى ترامب فرصاً ولو ضعيفة في ان يصل الى الرئاسة. من كان يصدّق انّه دمّر كل منافسيه داخل الحزب الجمهوري وكاد ان يدمّر الحزب نفسه؟
لم يترك دونالد ترامب مجالاً سوى لعبارة واحدة هي ان السياسة الأميركية هزلت فعلاً. من يرى كيف تعاطى باراك أوباما مع مأساة الشعب السوري، لا يعود يستغرب شيئاً!