مثلما ظهر «داعش»، اختفى «داعش»، أقلّه في العراق، وذلك بانتظار يوم قريب لا يعود له وجود في سوريا. ظهر في العراق في مثل هذه الأيّام من العام 2014، عندما كان نوري المالكي رئيساً للوزراء. سيطر على مدينة الموصل التي تُعتبر ثاني أكبر المدن العراقية معتمداً على عدد محدود من المقاتلين، فيما كان آلاف الجنود العراقيين في المدينة.
تفكّك الجيش العراقي الجديد، أي جيش ما بعد 2003، وهرب من المعركة من دون سبب منطقي. وسقطت الموصل التي كانت تُشكل حاضرة من حواضر العراق. لعب «داعش» كلّ الأدوار المطلوبة منه بهدف تشويه الإسلام، أكان ذلك في سوريا أو في العراق وفي أنحاء مختلفة من العالم. كلّ ذلك من أجل تصوير النظام السوري بأنّه يُقاتل الإرهاب.
الأهمّ من ذلك، برّر وجود «داعش» التدخل الروسي وقبله الإيراني في سوريا، وشوّه إلى حد كبير ثورة الشعب السوري الذي لا بدّ أن ينتصر يوماً على كلّ الذين دخلوا في حرب معه بعدما انتفض في العام 2011 على «سوريا الأسد» من أجل استعادة بعض من كرامته.
فجأة، بقدرة قادر، استطاع الجيش العراقي بدعم من «الحشد الشعبي» استعادة الموصل. سيأتي يوم تظهر فيه كلّ الحقائق وتُروى فيه كل تفاصيل
سقوط الموصل واستعادتها، لكن الثابت في المشهد أن المدينة دُمّرت، وسكانها صاروا في عداد المهجّرين بعدما أدّى «داعش» الدور المطلوب منه. إنّه في الواقع الدور الذي خُلق «داعش» من أجله، لا أكثر.
ليس بعيداً اليوم الذي سينتهي فيه «داعش» في سوريا بعد تأدية الدور المطلوب والذي وجد أصلاً من أجله. سيخرج «داعش» من الرقّة. سيرسم الأكراد الذين قاتلوه بدعم أميركي شارة النصر. يبدو واضحاً أنّ «داعش» لم يظهر صدفة، كما لم يختفِ صدفة. الأكيد أن هناك من سيخلف «داعش» في مناطق أخرى من العالم وفي ظلّ أسماء أخرى مختلفة تصبّ كلّها في سياق تنفيذ مخطّط مدروس بدقة. هذا مخطط مدروس إن لجهة تبرير وجود النظام السوري، علماً أن هذا النظام صار في مزبلة التاريخ، أو لجهة الانتهاء من الموصل تنفيذاً لعملية تصبّ في تغيير طبيعة العراق والانتهاء من مدنه الكبيرة مثل البصرة وبغداد والموصل أخيراً وليس آخراً في طبيعة الحال.
هناك وظيفة «داعش» الذي صنعته في الأصل إيران والنظام السوري عندما أخرجتا آلاف المتطرفين من سجون سورية وعراقية. خلف «داعش» تنظيم «القاعدة» وتفوّق عليه في كل ميدان من ميادين الإرهاب والوحشية وصولاً الى تبني عمليات دهس مواطنين أبرياء في مدن أوروبية في توقيت معيّن مرتبط الى حدّ كبير بما يدور في سوريا من أحداث يقف وراءها النظام والذين يدعمونه. استُخدم «داعش» أفضل استخدام في تغطية جرائم النظام السوري الذي كان في حاجة ماسة إليه عندما ظهر في تدمر ودمّر آثارها، وعندما انسحب من تدمر كي يمكن القول إن النظام لا يزال قادراً على القتال، وإنّه ليس أسير الميليشيات المذهبية التابعة لإيران ولا سلاح جو الروسي الذي حال دون سقوط الساحل السوري في خريف العام 2015.
تبيّن مع مرور الوقت أنّ هناك وظيفة عراقية وأخرى سورية لـ«داعش». سبقت الوظيفة السورية الوظيفة العراقية، لكنّ ما لا يمكن الاختلاف في شأنه هو أنّ الحاجة لا تزال قائمة إلى «داعش» في سوريا، فيما أتمّ «داعش» في العراق المهمّة التي وجد من أجلها، أي تدمير الموصل وتهجير أهلها، وتغيير طبيعة المدينة وتركيبتها، وتغطية ممارسات «الحشد الشعبي» التي هي في مستوى ممارساته والوجه الآخر لها.
بعيداً عن كلّ الأحداث الكبيرة التي رافقت ظهور «داعش»، هناك ملاحظات قليلة لا مفرّ من إيرادها عن ظاهرة تحمل هذا الاسم. ترتبط الملاحظة الأولى بظهور «الحشد الشعبي» في العراق. هناك ميليشيات عراقية منبثقة عن أحزاب مذهبية تابعة لإيران، استغلت ظهور «داعش» في الموصل، لتعلن عن قيام «الحشد الشعبي».
لم يكن من مبرّر لقيام «الحشد» لولا «داعش». كانت حاجة ماسة إلى ممارسات «داعش» وإرهابه كي يجد «الحشد» مبرراً لما قام به. الأهمّ من ذلك كلّه، مرّت عملية إيجاد شرعية لـ«الحشد الشعبي» بسهولة في ضوء ما ارتكبه «داعش» الذي صار مطلوباً الانتقام منه.
في الواقع، لم يكن مطلوباً الانتقام من «داعش» بمقدار ما أنّه كان مطلوباً الانتقام من أهل الموصل ومن المدينة نفسها بحجة أن هناك حاضنة لـ«داعش» في الموصل، هي بقايا الجيش العراقي الذي حلّه المندوب السامي الأميركي بول بريمر بعد احتلال العراق في العام 2003، وأسس في موازاة ذلك لنظام قائم على المحاصصة الطائفية مع تركيز على تهميش السنّة العرب وإذلالهم، عن سابق تصوّر وتصميم.
لولا «داعش»، لما كان ممكناً تشكيل «الحشد الشعبي» الذي هو الوجه الآخر لهذا التنظيم الإرهابي السنّي. بفضل «داعش»، صار طبيعياً أن يقود معارك الموصل الجنرال الإيراني قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني. بفضل «داعش»، صار كلّ شيء مقبولاً في العراق، بما في ذلك أن تحلّ ميليشيات مذهبية مكان الجيش العراقي.
أبعد من ذلك كلّه، قضى «داعش» على الحدود بين سوريا والعراق كدولتين مستقلتين. سار على خطى «حزب الله»، الميليشيا اللبنانية التابعة لإيران، بصفة كونها لواء في «الحرس الثوري» الإيراني.
عزّز «داعش» النظرية القائلة إن الرابط المذهبي يتجاوز سيادة الدول والحدود المعترف بها دولياً. تدخّل «حزب الله» في سوريا من منطلق مذهبي ليس إلّا. ارتبط «داعش» سوريا بـ«داعش» العراق، من منطلق مذهبي أيضاً. وُجد من يستغل ذلك لتكريس واقع جديد في الشرق الأوسط. تقف إيران وراء هذا الواقع المتمثّل في أن المذهب هو الرابط برّاً وجوّاً. استند الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصرالله في خطابه الأخير في مناسبة «يوم القدس»، وهو «يوم خطف القدس» من قبل إيران، ليقول إنّه إذا هاجمت إسرائيل لبنان، «ستفتح الأجواء لعشرات الآلاف، بل مئات الآلاف من المجاهدين والمقاتلين من كلّ أنحاء العالم العربي والإسلامي من العراق وإيران واليمن وأفغانستان وباكستان ليكونوا شركاء في هذه المعركة».
كان يشير إلى احتمال تدفق مقاتلين شيعة من كلّ العالم على لبنان، وكأنّ لبنان لا يكفيه ما يعانيه من السلاح غير الشرعي لـ«حزب الله» ومن دخول الحزب في حرب على الشعب السوري.
ماذا بعد معركة الموصل؟ ليس الموضوع موضوع «داعش» الذي انتهى. من سيخلف «داعش» هو الموضوع. أدّى «داعش» المطلوب عراقياً. صار «الحشد الشعبي» مؤسسة شرعية في العراق. السؤال الآن كيف سيُستخدم «داعش» سوريا. المهمّة السورية لـ«داعش» لم تنتهِ بعد. الشيء الوحيد الثابت أنّها كانت مهمّة إيرانية فاشلة بمشاركة النظام السوري. لن ينقذ «داعش» النظام السوري كما كان مخططاً لذلك. لكنه ساعد في المقابل في تكريس «الحشد الشعبي» ليكون جزءاً لا يتجزّأ من المعادلة السياسية في العراق مع ما يعنيه ذلك من أسئلة في شأن مستقبل حيدر العبادي.
ما الذي سيفعله رئيس الوزراء العراقي بعد الموصل؟ هل يستطيع إثبات أن الجيش العراقي لا يزال موجوداً… أم أن عليه الاستسلام نهائياً لـ «الحشد»، أي لإيران؟