IMLebanon

الأصولية في ظلال «الداعشية»

يعبق الفضاء التديني في ادعاءاته الأصولية النصية، كما في مسلكياته العملية، ومؤخراً في اعتماده معايير التطرف والإرهاب والتكفير، بالكثير من تنويعات ومتلازمات جنون العظمة السلطوي، إلى درجة ذهاب البعض («الداعشي» خصوصاً) إلى تأليه ذواتهم وتخيل إنها تستمد من الله قدرته وإمكاناته على الفعل، وبالتالي قدرتهم على ما يقدر الله، واستطاعتهم على ما يستطيع الله، ناسين أو متناسين إنهم من جنس البشر، ولا يمكنهم القيام مقام الله، وإلا كانوا أكثر جحوداً واستكبارًا من كبر المخاتلين.

لهذا أخطأ ويخطىْ من يظن أن فواحش «الدواعـــش» هي من الدين بمـــعاييره المعروفة أو المتــعارف عليها، بل هي إلى الإجرام أقرب، أما عدتهم النصية والمرجعية، فهي مما لا يمكن حسبانها بالمطلق على الدين، لا في فطرته الأولى، ولا في ما صاره من بعد، أو في حــالات أدلجته المختلفة، حتى ولو جرى استــعمال أو استـــخدام نتف من هنا وهناك من نصوص ومرجعيات المتدينين على اختلــاف أصولياتهم، وعلى رغم استخداماتهم لها، في العديد من المواقف التي لا تحتاج إلى كل هذه الـــتأتآت والتــبريرات والتأويلات، مما لا وجود أو أسانيد لها، لا في النص الأول، ولا في أي من النصوص اللاحقة، وما شابهها من النصوص الحافة، قديمها والجديد، ولا في النصوص الحديثة بالطبع، وهي التي أخضعت للتسييس حد التدنيس من قبل أيديولوجيات ومؤدلجي الأصوليات المبتدعة.

لقد سقطت تجارب أصوليات «الإسلام السياسي» على اختلافها في لجج سحيقة من الاختلافات والتباينات والانشقاقات، التنظيمية والفقهية والسياسية والشرعية حتى وصلت إلى مفاهيم ما كان الأصوليون الأوائل يعمقون خلافاتهم في شأنها، وإن كانت لتحسم وسطياً، فقد كان الحسم عبر المحاججات الفقهية، أما اليوم فالمحاججات المسلحة القائمة على القتل والتصفيات الجسدية والتفجيرات والذبح، فهذه كلها أصبحت هي لغة التخاطب الوحيدة القائمة في الفضاء الأصولي للموجة الجديدة من دواعش «السلطة الإلهية» التي تضخمت متلازمات أصحابها، حتى غدت المانعة في مقاربات الوحدة والاتحاد (فمن هم وأين هم أسود التوحيد- التفتيت؟) والجامحة في الانقلاب على تاريخ بأكمله، طوي في أدراج الماضي، من أجل ابتداع سلطة مقدس آخر، أكثر «حداثة» في مسلكياته التي لا تحفظ وداً لأحد، من أصوليي الموجات القديمة من أحزاب وتيارات «السلف الصالح» القديمة والجديدة، أما الحديثة وأكثر حداثة والتي أصبحت الفاحشة «الداعشية» تمثل وجهها الإجرامي الأسود والمتوحش، فهي تلك التي تعادي العالم كله، إن لم يثوبوا إلى «رشدهم» بصورته «الداعشية» ويخضعوا لسلطة الخليفة، وهو المعادل لـ «الأخ الأكبر» في عالم عصابات المافيا والإجرام، ويكونوا رعايا مطيعين لدولة الوهم الخليفي.

لهذا لا تختلف الإستراتيجية «الداعشية» في كل أماكن وجود عناصرها الفاعلة على امتداد العالم، حتى إنه لا يكاد يلحظ وجود تكتيكات لها، ولو في المجال الإرهابي العسكري، فليس من طبيعة هذه الأصولية المتوحشة وجود أي ميل للسياسة، أو المسايسة والمسايرة، القتل ديدنها الوحيد، الانتحار بأي طريقة مهنتها الوحيدة، في كل الأماكن، أهدافها العالم كله على امتداد القارات، هم أعداء أنفسهم وأعداء أسرهم وعائلاتهم، وهم أيضاً أعداء طائفتهم وأعداء مذهبهم، وكذا أعداء هويتهم وكل الهويات الأخرى، والمجتمعات الأخرى والدول الأخرى، هم عبيد دولتهم، «دولة الخلافة» التي يراد لها استخلاف كل دول العالم وسكانها بأطيافها وأديانها المختلفة، بل هي «دولة العدو» لدى الغالبية من أعضائها الذين حالفوها وتحالفوا معها، وما كان منهم إلا الافتراق والتباعد والتباغض في لحظة من لحظات انكشاف الوهم وانفضاح الصورة، حيث الأصل في تلك الأصوليات الفتنوية الهدامة، شق الصفوف وتشظية المجتمعات وتبغيض الناس والدول في ما بينهم.

تلك هي الوجهة الأخيرة لأصولية باتت تتعايش في ظلال «الداعشية»، وتخضع لها بالسر كما بالعلن، وإن لم تصدقوا، اسألوا تلك الأصولية المنخفضة الصوت التي يحسبونها على ما يسمى قوى «الإسلام السياسي»، فهي لا تختلف عن صورة «الداعشية» المرتفعة الصوت، فهذه الأخيرة لن توفر في الغد لا هؤلاء ولا أولئك ممن يتزيون بأزياء «الدواعش» اعتدالاً أو تطرفاً، طالما أن التكفير والإرهاب وجهان لعملة استبداد «داعشية» واحدة، لا تختلف عن عملة نظم الاستبداد السياسية والعسكرية والطائفية والقوموية.