لم يعد الاعتراض المتزايد على تيار «المستقبل» في الشارع السني يحتاج الى أي اجتهاد للتأكد منه. صار حقيقة تُشغل بال القيادات الزرقاء التي تردها التقارير اليومية عن حجم التراجع في المناطق الشعبية، لا سيما في الشمال وعلى وجه التحديد في طرابلس.
لم تأت هذه الاعتراضات من فراغ، وإنما بفعل تراكمات بدأت بعد انتخابات العام 2009، وكانت باكورتها إغلاق التيار لـ «حنفية» المساعدات المالية والعينية، وإقفاله بعض المؤسسات الخدمية، بحجة الأزمة المالية للرئيس سعد الحريري والتي استمرت مفاعيلها الى اليوم (ست سنوات)، حيث ما تزال الخدمات الزرقاء شبه معدومة.
ويمكن القول إن بعض القواعد الشعبية التي اعتادت على هذه الخدمات، تمكّنت من التعايش مع هذا الواقع، وهي بدأت تأخذ جرعات معنوية متتالية عبر الوعود التي كانت تطلق عند كل استحقاق، على قاعدة: «الموعود ليس محروماً»، لكن أكثرية هذه الوعود لم تنفذ حتى الآن، وأهمها مبلغ العشرين مليون دولار الذي خصّصه الرئيس الحريري لإنماء طرابلس بعد المعركة الأخيرة بين الجيش والمجموعات المسلحة، وقبل ذلك مبلغ الـ 15 مليون دولار لعرسال.
لم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل ثمّة العديد من المحطات السياسية والأمنية خلال السنوات الماضية أدّت الى زعزعة الثقة بين «المستقبل» وقواعده الشعبية التي كانت تتعرّض في كل مرة الى خيبات أمل قاسية، بسبب ما يسمّيه بعض الكوادر في المناطق الشعبية «التنازلات والتكويعات والتخلّي عن الناس والتهاون في بعض الثوابت، لا سيّما الدينية منها، بشكل علني».
كثير من الشواهد في هذا الإطار التي يتحدّث عنها أبناء المناطق الشعبية. فبعد أحداث 7 أيار 2008، أعيد فتح باب جولات العنف بين التبانة وجبل محسن كرمى لعيون «تيار المستقبل»، و «ثأراً» لاجتياح بيروت ولاغتيال الرئيس رفيق الحريري بعد الاتهامات التي كالها نجله سعد الى النظام السوري… لكن مَن دفع ثمن تلك الجولات من أرواحه وممتلكاته، فوجئ بالحريري في قصر المهاجرين في ضيافة الرئيس السوري بشار الأسد أكثر من مرة ومن ثم في إيران، وعلى طاولة مجلس الوزراء بالشراكة مع «حزب الله».
ومع تكليف الرئيس نجيب ميقاتي برئاسة الحكومة، عاقب «المستقبل» طرابلس وأهلها بـ «يوم الغضب» الذي اعتذر الرئيس الحريري بعده عن الأذى الذي لحق بهم، ومن ثم تمّ نقل كل التوترات إلى الفيحاء على مدار ثلاث سنوات بهدف إضعاف حكومة ميقاتي تمهيداً لإسقاطها، وجرى تحويل المدينة إلى حديقة خلفية لدعم المعارضة السورية، وشهدت المحاور 14 جولة عنف حصدت المئات من الشهداء والجرحى، تحت شعار اللاءات الشهيرة: لا لحكومة شراكة مع «حزب الله»، ولا لحكومة بشار الأسد، ولا لاستهداف السنّة، ولا لسحب السلاح من طرابلس فيما السلاح موجود في الضاحية الجنوبية والمناطق الأخرى، فضلاً عن لا للجلوس أو الحوار مع «حزب الله» إلا بالخروج من سوريا، وتسليم سلاحه الى الدولة اللبنانية، وتسليم المتهمين باغتيال الرئيس رفيق الحريري الى العدالة.
لكن هذه اللاءات ما لبثت أن تلاشت مباشرة بعد استقالة ميقاتي، وعودة «المستقبل» الى الحكم عبر الرئيس تمام سلام، فتشكلت حكومة شراكة مع «حزب الله»، ومن ثم بوشر الحوار معه، من دون تنفيذ أي من الشروط الزرقاء المسبقة والتي تم على أساسها تحريك الشارع مراراً وتكراراً، إضافة الى تنفيذ الخطة الأمنية بقدرة قادر، وتحويل مَن كانوا «يدافعون عن المدينة وأهلها»، في نظر «المستقبل»، ومَن كان محظياً من الإسلاميين لديه، الى مطارَدين وإرهابيين.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، بل لم يتوانَ الرئيس سعد الحريري عن الإعلان بأنه يدعم الزواج المدني الذي خاضت الحركات الإسلامية سلسلة مواجهات لمنع إقراره، ومن ثم إيعازه إلى هيئة التحرير في جريدة «المستقبل» بعد الاعتداء على مبنى جريدة «شارلي إيبدو»، بسبب الرسوم المسيئة الى النبي محمد، بإصدار عدد اليوم التالي بمانشيت تحت عنوان عريض: je suis Charlie.
وكانت التوقيفات التي جرت عقب المعركة الأخيرة بين الجيش والمجموعات المسلحة، وما حصل في سجن رومية، بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير في العلاقة بين «المستقبل» وقواعده الشعبية، حيث يعتبر كثير من متابعي ملف الموقوفين الإسلاميين أنهم أدخلوا السجن في حكومة «المستقبل» التي كان يرأسها الرئيس فؤاد السنيورة، وما يزالون حتى الآن من دون محاكمات (سبع وثماني سنوات).
هذه التراكمات جعلت كثيرين يعبّرون عن غضبهم على تيار «المستقبل» ويترجمون ذلك بشكل علني في اعتصاماتهم ومسيراتهم التي لم تخلُ من تمزيق صور ولافتات للرئيس سعد الحريري، وإطلاق الهتافات المناهضة للسياسة الزرقاء.
وعلمت «السفير» أن ما يجري في طرابلس وفي بعض المناطق، بدأ يقلق القيادة المركزية التي عقدت سلسلة اجتماعات للبحث في كيفية مواجهتها.
ويتّهم المنسق العام لتيار «المستقبل» في طرابلس الدكتور مصطفى علوش ماكينات سياسية ودينية متضررة من التيار تقف خلف هذه الحملات، مؤكداً أن «تيار المستقبل يعمل من أجل الصالح الوطني العام، ولمصلحة الطائفة السنية بشكل خاص»، معتبراً أن «تفكيك إمارة سجن رومية، وتعزيز الخطة الأمنية، وسحب السلاح من المناطق الشعبية، وملاحقة الخارجين عن القانون، يساهم في تحصين الساحة السنية ومناطقها، لأن حزب الله يريد تعميم السلاح غير الشرعي في مناطقنا ليبرر وجود سلاحه غير الشرعي المنظم».