وحده المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم يخوض غمار مفاوضات محترفة ومهنية غير مباشرة مع فرع «تنظيم القاعدة» في سوريا المعروف بـ«جبهة النصرة» لاطلاق سراح الجنود اللبنانيين المختطفين، فدون اي اجندات سياسية على هامش التسوية التي تشير كل التسريبات الى انها اقتربت من النضوج، يعمل ابراهيم على عدم اقتران هذه الصفقة في حال حصولها، باي اثمان سياسية او امنية تحاول الدولتان الراعيتان لهذا التنظيم، قطر وتركيا، تمريرها عبر تفاهم يشمل السعودية لتلميع «صورة» هذا التنظيم وتأهيله كي يكون «رأس حربة» في تغيير موازين القوى العسكرية في سوريا في المرحلة المقبلة، خصوصا بعد نجاح التجربة الاولية الميدانية في مدينة ادلب.
وبحسب اوساط ديبلوماسية في بيروت فان الحديث بشأن «النصرة»، وضرورات تأهيلها لم يعد مجرد تسريبات اعلامية فاجهزة المخابرات في عدد من الدول الخليجية من بينها السعودية بدأت قبل مدة تحركات عملية لفتح صفحة جديدة مع هذا التنظيم لمواجهة النظام السوري وحزب الله والحرس الثوري الإيراني، بغرض قلب موازين القوى في سوريا، بعد أن ثبت لهؤلاء بؤس خيار المراهنة على «المعارضة المعتدلة».
وتلفت تلك الاوساط الى ان المؤشرات الدالة على هذا الامر كثيرة اهمها ان عملية إدلب التي انتهت بسيطرة «النصرة» على عاصمة المحافظة، ما كان لها أن تتم لولا الدعم والتنسيق المباشرين من قبل عواصم عربية وإقليمية، الأمر ذاته ينطبق على أمر العمليات الذي تلقته الفصائل «التكفيرية» في المحافظات الجنوبية، والذي مكّن «النصرة» من أن تصبح على حدود الاردن، وسط محاولات لم تنقطع، لإقناع «النصرة» بضرورة «فك ارتباطها» الرسمي بالقاعدة، وهي المحاولات التي قاومها امير التنظيم أبو محمد الجولاني حتى الآن، وثمة معلومات تفيد بان المبادرة المنتظرة ستكون من زعيم تنظيم «القاعدة» أيمن الظواهري، الذي يعمل اكثر من جهاز استخباراتي لاقناعه عبر رسائل غير مباشرة من خلال «جهاديين»» تائبين» لحل «النصرة» من البيعة وتبعاتها، لتفادي التنظيم وداعميه الإقليميين من الحرج القائم ، واستتباعاً إعادة تأهيل التنظيم، ليصبح طليعة قيادية للمعارضة السورية المسلحة والمعتدلة.وفي هذا السياق، تعمل هذه القوى ايضا للانفتاح على «الإخوان المسلمين» في اليمن وسوريا واول الغيث اعلان رئيس «هيئة العلماء المسلمين» في اليمن عبد العزيز الزنداني تاييده «لعاصفة الحزم».
هذه الاجواء تنسحب على الواقع اللبناني، وعندما تقول اوساط مقربة من 8آذار ان اللواء ابراهيم يخوض غمار المفاوضات وحده دون خلفيات «خبيثة»، فهي تشير الى ان قوى سياسية لبنانية متورطة في هذه العملية بدفع خارجي، واذا كان النائب وليد جنبلاط اكثر المرتاحين للتحول السعودي بعد ان اقتنعت الرياض بوجهة نظره حيال «النصرة» التي لم ير يوما انها تنظيم ارهابي، وينسق معها عبر قنوات في المعارضة السورية لمعالجة اوضاع الموحدين الدروز في سوريا، فان تيار المستقبل «ركب الموجة» بعد التغييرات الجوهرية في الموقف السعودي التي عادت الى المربع الاول في استراتيجيتها لمواجهة ايران وحزب الله عبر تلك التنظيمات لوقف المد «الشيعي» في المنطقة. وبما ان تنظيم «داعش» قد خرج عن الاطار المرسوم له ولم يعد بالامكان السيطرة عليه، فان الاستثمار الوحيد المتاح راهنا يبقى «جبهة النصرة» التي لم تخرج يوما من «العباءة» التركية- القطرية ويمكن توظيفها في المعركة المفتوحة مع طهران.
لكن كيف يستقيم هذا التحليل او المعلومات مع الزخم الذي يقوده وزير الداخلية نهاد المشنوق لمواجهة المجموعات الارهابية في الداخل؟ وكيف يمكن اتهام المستقبل بالمشاركة في مشروع اعادة «تأهيل» «جبهة النصرة» فيما حقق فرع المعلومات انجازا امنياً كبيراً قبل ايام حين تمكن من توقيف الشيخ خالد حبلص وقتل المطلوب الفار اسامة منصور في طرابلس؟ طبعا تلك الاسئلة مشروعة برأي تلك الاوساط لكنها غير دقيقة وتنطلق من استنتاجات خاطئة، فالعملية في شارع المئتين لم تكن تستهدف اسامة منصور ولم تكن القوى الامنية المكلفة بمهمة المطاردة على علم بوجوده في محـيط الكمين الذي استهدف توقيف حبلص بصفته احد اخطر المطلوبين المنتمين الى تنظيم «داعش» في لبنان، وكانت المعلومات تشير الى انه كان يضع اللمسات اللوجستية الاخيرة لتنفيذ عمليات امنية على الساحة اللبنانية، لكن المفاجأة حصلت عندما تعرضت «القوة الضاربة» لاطلاق نار من السيارة التي كان يستقلها منصور فردت القوى الامنية على المصدر دون علمها المسبق بان منصور داخلها، وقد تم التعرف على جثته في وقت لا حق.
والمفاجأة الرئيسية لدى الاجهزة الامنية المتابعة لملف حبلص كانت في وجود منصور في ساحة العمليات وهي تعمل على «فك» لغز هذا التنسيق المستجد بين الطرفين، كون المعلومات المتوافرة تشير الى ان الرجلين يعملان في سياق اجندتين مختلفتين فالاول بايع «داعش» ويتواصل مع عدد من أمرائها في سوريا، اما الثاني فيرتبط مباشرة بامير «جبهة النصرة» في القلمون ابو مالك التلي، ولذلك فان مقتلهما سويا فتح افاق جديدة في التحقيقات لجهة حصول تغييرات بنيوية في المجموعات الارهابية على الاراضي اللبنانية، فهذا التعاون يفيد بوجود استراتيجية مختلفة تحـتاج الى مقاربة جديدة في التعامل مع هؤلاء.
وفي هذا السياق تشير تلك الاوساط الى ان السجال بين وزير الداخلية نهاد المشنوق و«هيئة العلماء المسلمين» جاء على خلفية المعلومات المتوافرة لدى «الهيئة» حول المقاربة الجديدة تجاه «جبهة النصرة» وكان هول المفاجأة كبيرا بعد ورود خبر مقتل اسامة منصور، وكانت الصدمة اكبر بعد التأكد من مقتله على يد القوة الضاربة في فرع المعلومات، وليس استخبارات الجيش اللبناني، فبالنسبة الى «هيئة العلماء المسلمين» لا يمكن «المونة» على المؤسسة العسكرية كونها خارج سياق هذا المناخ الاقليمي المستجد، ولذلك فان قيام فرع المعلومات بالمهمة ما كان ليحصل دون تغطية سياسية من تيار المستقبل، وهو ما رأت فيه ازدواجية غير مفهومة، لكن وزير الداخلية سارع الى التوضيح والشرح بان منصور لم يكن ضمن الاهداف المرسومة للعملية ومقتله كان محض صدفة.
وبحسب معلومات تلك الاوساط فان لقاء المشنوق الاخير مع رئيس الحكومة الاسبق سعد الحريري تناول في جانب منه هذا الملف، عشية الزيارة التي قام بها رئيس تيار المستقبل الى الدوحة للقاء اميرها الذي يدير عملية «تنظيف» «جبهة النصرة» من الموبقات، وكان لا بد للحريري ان يكون محاطا باجواء ما حصل من تطورات ميدانية قد تشكل حرجا بالنسبة اليه خلال المحادثات التي كان ملفها الاساسي المفاوضات مع «النصرة» لاطلاق العسكريين المختطفين، وتأمل قطر ان يكون انجاز الصفقة مدخلا مناسبا لتغيير النظرة السلبية حيال هذا التنظيم واستخدام اطلاق سراح العسكريين منصة تطل من خلالها بحلة جديدة تؤهلها لفتح صفحة جديدة على الساحتين اللبنانية والسورية، وطبعا لا يناسبها في الوقت الراهن حصول عمليات امنية كتلك التي حصلت في طرابلس. ولذلك اقتضى التوضيح من قبل الحريري.
وازاء ما تقدم فإن ملف «جبهة النصرة» سيكون في المقبل من الايام «مادة» جديدة للتجاذب المحلي في ظل انتفاء القدرة لدى «المستقبل» على تسويقه داخليا، فاستراتيجية مكافحة الارهاب ليست ملك وزير الداخلية او الرئيس الحريري ولا يملكان «مونة» على كافة الاجهزة الامنية، وبالنسبة الى حزب الله لا شيء يمكن ان يغيّر من قناعاته او اجندته المرسومة لمواجهة «التكفيريين»، لكن النقطة الاهم تبقى في عدم الانصياع لرغبة الرعاة الاقليميين بربط ملف الاسرى بمسألة «تلميع» «صورة النصرة»، مع العلم ان من سيوافق على هذه «المعادلة» لن يكون قادرا على تنفيذها وينطبق عليه القول المأثور «وعد من لا يملك لمن لا يستحق».