لا تبدو القوى والشخصيات المتحالفة تحت مظلة تحالف 14 آذار مرتبكة في المواجهة السياسية والإعلامية مع الجنرال ميشال عون، مواجهة أشعلت في “تيار البرتقال” موجة نوستالجيا إلى ما كان زمن قصر بعبدا وما تلاه لأعوام مديدة، بزمامير وأعلام وشعارات وشباب وصبايا في الشوارع والساحات.
بدا هذا “التيار” كأنه يستذكر انطلاقته، وكأن قائده يحاول استرجاع شبابه السياسي وإن من “حلاوة الروح” بفعل تشوهات لحقت بمسيرته في السلطة منذ عودته الى لبنان قبل عشر سنوات. تشوهات عميقة لعل أبرز أسبابها شخصانية شديدة، تتمثل في التشبث بترشحه هو للرئاسة وإلا لا رئاسة، بترشيح صهره للقيادة العسكرية حتى لو تسبب بأزمة سياسية على غرار أزمة أبقت لبنان ستة أشهر من دون حكومة، إلى أن توزّر فيها صهره الآخر جبران باسيل.
عشر سنوات من المشاركة في السلطة من غير أن تحمل تغييراً ولا إصلاحاً ولا وصولاً إلى ذروتها رئاسة الجمهورية، استنزفت هذا التيار بل أنهكته وبدلت مراراً في ملامح قائده الجنرال، الحائرة صورته بين تهلل لتمضية عيد ميلاده الثمانين مع الرئيس سعد الحريري في بيته، وأمامهما قالبا كاتو، على شوكولا وعلى حليب، وشموع ومشروع اتفاق شامل على رئاسة وحكومة وتعيينات، وبين تهجّم وغضب شديدين يذكّر بأقسى أيام جنرال بعبدا وهو يطلق الاتهامات القصوى ضد “تيار المستقبل” ورئيسه. يجرح هذا التقلّب في التعامل مع رجل واحد صدقية الجنرال.
في المقابل مرتاح “تيار المستقبل” إلى ثباته وتحالفاته الداخلية أكثر بكثير من “التيار الوطني الحر”. صحيح أن قوى 14 آذار تضج دوماً باختلافات في الرأي والأسلوب واحتجاجات على طريقة إدارتها السياسية، لكنها اختلافات لا تصل إلى المبدأ أي الخيار السياسي الذي تدافع عنه كل يوم وكل ساعة وإلا فقدت مبرر وجودها: الإيمان بلبنان أولاً، بوحدة شعبه وعيشه معاً مسيحيين ومسلمين، في ظل الدستور واتفاق الطائف المنفتح على تطبيقه وتحسين تطبيقه، على ما ذهب إليه الرئيس سعد الحريري في خطابه في “البيال” قبل سنتين بما يعالج غالبية منابع الشكوى لدى المسيحيين، خطاب لم يُعطَ حقه من دعم ولا من متابعة تحت ضغط التطورات، وأيضاً الظروف الصعبة والمتنوعة من داخل وخارج والتي مرّ بها “تيار المستقبل” نفسه، وفقاً لما يعترف به أركان فيه ولا يخفونه، ويؤكّدون الاقتراب من التوصل إلى حلول لها من خلال لقاءات متتابعة، كالتي حصلت في الأيام الماضية في جدة.
ولكن ألا يضير “المستقبل” سكوت حليفه حزب “القوات اللبنانية” في المواجهة مع “التيار العوني”، وعدم حماسة حزب الكتائب الكبيرة وبعض الشخصيات المسيحية للخوض في هذه المواجهة؟ كلا. ففي خلفية بعض هؤلاء أن الموقف الأفضل في هذه المرحلة هو التفرج على الجنرال عون وهو يصطدم بالجدار من دون إحياءٍ لعداوات مع قاعدته، سواء تقلصت أو توسعت، موقنين أن الرجل يخوض آخر معاركه ويراهن بآخر ما يملك ويخسر الكثير في طريقه، من تضامن حلفاء وأنصار يتحوّلون عنه تباعاً، لا سيما ممن يتابعون ويقارنون، وايضاً ممن يتأثرون بأجواء المؤسسات العسكرية والأمنية.
مرتاح “المستقبل”، مدركاً أن ورقة “إعلان نوايا” مع “التيار العوني” لا تغيّر في حليفه “القوات اللبنانية”. لا تتغير “القوات” في هذا الموضوع ولا غيره عندما يتعلق الأمر بالمبدأ، لكن لها أسلوبها والحرية دوماً في التعبير عن امتعاض من لقاءات واتفاقات ومحاولات اتفاق سعى إليها شريكها “المستقبل” مع الجنرال سراً عنها وعلانية، فوق الطاولة وتحتها، في ضوء الثريات والشموع، وفي باريس كما في بيروت. ما هكذا يكتسب أحدٌ، أيا يكن، ثقة سمير جعجع، المتوجّس دوماً من خيانات واتفاقات مريبة لطالما انعكست عليه سلباً منذ بدء حياته السياسية. والرسالة وصلت، وبوضوح: لا يُلدغ “الحكيم” مرتين، لكنه يبقى هو نفسه. والجنرال أيضاً.
أما الكتائب اللبنانية، خصوصاً بقيادة النائب سامي الجميّل ورفاقه، فيدرك “المستقبل” أنه حزب لا يتغاضى لحظة عن واقع مؤلم يعيشه اللبنانيون بسبب من الجنرال عون. فقد استطاع هذا الرجل أن يدخل إلى البيئة المسيحية اللبنانية التقليدية اقتناعات – وإن هوائية – عجزت عن إدخالها إليه على مر عقود وعقود أحزاب البعث والسوري القومي والعروبيون الناصريون والمتأسلمون، واليساريون أيام عز الاتحاد السوفياتي، وكل من يعتبرهم حزب االكتائب حملة أفكار تناقض “الفكرة اللبنانية”. يلتفت سامي الجميّل ولا يمكنه إلا التوقف عند مبدأ “لبنان أولاً” الذي يقاتل تحته “تيار المستقبل” ويتلقى الضربات تلو الضربات بسببه، فيما أنصار الجنرال عون يبررون تحت شعار “استعادة حقوق المسيحيين” كل الجرائم بحق لبنان دولة وكياناً وتاريخ نضالات. يلتقي “المستقبل” و”القوات” والكتائب على أنهم يخوضون معركة كبيرة كلبنانيين يدافعون عن لبنان. ميشال عون لا يعنيه سوى تصوير “المستقبل” على أنهم مسلمون سُنّة. يَسقط من حسابه لبنان.