Site icon IMLebanon

«تيار المستقبل»: ارتباك.. كيفما رست التفاهمات

في هذه الأيام، يمتهن «تيار المستقبل» التنقيب في كتب السياسة عن الفتوى المقنعة التي تتيح له أن يشرعن ترشيح سعد الحريري لسليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، بغية تخفيف وطأة هذه المعادلة وثقل تداعياتها، على ذاته قبل غيره.

ليس قليلاً أن ترسو خيارات الفريق الذي أخذ بصدره المعارضة السورية واحتضنها بوجه بشار الأسد، أن يسقط كل العوائق والحواجز ليرفع مرتبة القطب الزغرتاي، صديق الرئيس السوري، بضربة واحدة، من مرتبة الخصم الشرس الى مرتبة المرشح التوافقي، متفوقاً على رزمة أسماء لموارنة اعتقدوا أنّ بقاءهم على خطّ الوسط هو تأشيرة دخولهم الى جنّة القصر، ومتقدّماً على ترشيح الزعيم المسيحي الأول.

طبعاً، لم يكن سعد الحريري ليخاطر بكل رصيده أمام جمهوره، حين قرر القفز في هواء الترشيحات، من ضفّة تبني ترشيح صقر قوى «14 آذار»، أي سمير جعجع، الى الضفة المضادة، بإلقاء عباءة التوافق على كتفَي صقر قوى «8 آذار»، لولا تأكده بالمعطيات وبالقراءة السياسية، أنّ سلته ستكون فارغة إذا تسمّر في موقعه في أقصى اليمين، منتظراً متغيّرات إقليمية تسمح له بأن يكون ناخباً أوحدَ أو بالأحرى متحكماً بالمسار الرئاسي، فيسمي من يريد للكرسي المخملي.

ولهذا راح أبعد مما كان متوقعاً منه، بعدما سدّت بوجهه كل المنافذ التي تتيح إعادة تسيير عجلة المؤسسات اللبنانية، وقبلها إخراج فخامة الشغور من القصر الرئاسي. فمعادلة الرئيس الوسطي لا يمكن لها أن تكون حكماً بين الاصطفافين الحادين، أسوة بما فرضه اتفاق الدوحة الذي أتى بقائد الجيش «مارونياً أول»، خصوصاً أنّ «تيار المستقبل» يتجنّب قدر الإمكان، لا بل سيحاول بكل ما أوتي من قوة التمنّع عن تجرّع كأس تغيير قانون الانتخابات، لأنه يعرف جيداً أنّه سيُسلب ترف «قانون الستين» ولن يتمكن في ظل أي قانون آخر من الحفاظ على هذه المكتسبات.

وحين قرر رئيس «التيار الأزرق» أن يخاطر برهاناته ليجالس الجنرال ميشال عون ويفتح سجلاً نظيفاً بين الفريقين على قاعدة ترئيس الزعيم المسيحي الأول مقابل وصول السنيّ الأول الى السرايا الحكومية، لم يكن مناوراً كما اتهمه البعض، حتى أنّ رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» لا يزال يردد حتى اللحظة أنّ سعد الحريري كان صادقاً في ما عرضه عليه، لكنه عاجز عن الالتزام بعهوده.. لأنّ العلة في مكان آخر.

وحتى اليوم، يكرر الحريريون أمام جنرال الرابية الموقف ذاته، وأنّ إقفال صفحة ترشيحه من جانب رئيس «تيار المستقبل» ليس بسبب الاعتراض على اسم ميشال عون، بل بسبب الفيتو الخارجي، وتحديداً السعودي ـ الأميركي، الذي حال حتى دون وصول شامل روكز الى قيادة الجيش.

من هنا يمكن الانطلاق بسرد رزمة الإحراجات التي يواجهها «تيار المستقبل» والتي تزركه في زواية لا يحسد عليها، خصوصاً بعدما تبيّن له أنّ التقارب العوني – القواتي ليس مزحة أو ردة فعل قد تنتهي بوقف مفاعيل الفعل، أي ترشيح سليمان فرنجية من جانب «الزرق»، لا بل هو نتيجة تراكم القناعات لدى الرابية ومعراب بأنّ في تقاربهما خلاصهما.. حتى لو لم تكن النتيجة وصول ميشال عون أو سمير جعجع الى بعبدا.

عملياً، صار جلياً بالنسبة للفريق الحريري أن ما يحصل على خطّ الخصمين المسيحيين التاريخيين لن يسلك خطّ الرجعة ولا يمكن فرملته بسهولة، بمعنى أنّ الاتفاق الذي يُعمل عليه بين الرابية ومعراب من شأنه أن يخلق واقعاً جديداً يستحيل تجاوزه أو غضّ الطرف عنه. ولكن بالعكس، سيفرض معادلة انقلابية ستغيّر المشهد برمّته، وستعيد الطابة الى ملعب الحريريين.

هكذا، سيجد «تيار المستقبل» نفسه مثقلاً بعبء موقفه من التفاهم المسيحي – المسيحي لأنه هو من بشّر به وطالب به كممر إلزامي للوصول الى تفاهم لبناني موسع، فكيف يمكن له أن يقف اليوم بوجه التقاء الفريقين المسيحيين الأقويين؟

لهذا مثلاً بدا الحريريون مصدومين وغير مصدقين ما يتناهى الى مسامعهم من أخبار اعتقدوا أنّها قد لا تأتيهم إلا في الأحلام حول اتساع رقعة التوافق بين «التيار الوطني الحر» و «القوات»، فاستبعد مثلاً نائب رئيس «تيار المستقبل» انطوان اندراوس هذا التبني، لأنّ جعجع «رجل حكيم وذكي»!

ومع ذلك سيكون صعباً على «تيار المستقبل» أن يخرج بموقف رسمي رافض للتوأمة الرئاسية بين «التيار الوطني الحر» و «القوات» لأنّ الجمهور المسيحي لن يغفر له هذه «الخطيئة» في رجم التفاهم المسيحي – المسيحي الذي يفترض به أن يكون حجر أساس أي اتفاق لبناني لاختيار رئيس خلفا لميشال سليمان، لأنّ المسيحيين هم أدرى بشعاب رئاستهم.

وفي الوقت نفسه، لا يريد «الفريق الأزرق» أن يحرق مراكبه مع سمير جعجع وأن يخسر حليفه المسيحي الأقوى من خلال السماح له بالانتقال وحيداً الى ضفة ميشال عون الرئاسية. ولهذا تراه يلعب مع حليفه على حافة الهاوية، فيحاول ثنيه عن خطوته في تبني ترشيح رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» ولكن من دون أن يفلت يديه.

يعمل «المستقبل» جاهداً على وقف الاندفاعة العونية – القواتية لأنه يدرك أنها ستكون محرجة بالنسبة اليه، حتى لو لم تنته بوصول الجنرال الى بعبدا، لكنه لا يريد من جهة أن يصوّره المسيحيون على أنّه جدار الفصل الذي حال دون ترئيس ميشال عون، ولهذا قيل للأخير بالحرف الواحد إنّ قرار التعطيل يخرج عن سلطة سعد الحريري.

كما لا يريد من جهة أخرى أن يضحي بتحالفه مع «القوات»، رغم الهوّة التي صارت بينهما وأفقدت حلف السنوات العشر الكثير من مقوماته وركائز الثقة التي تجمع بينهما، خصوصاً إذا تصرّفت السعودية براديكالية مطلقة مقفلة الباب أمام أي سيناريو من شأنه رفع الفيتو عن زعيم المسيحيين الأول.

أما آخر إحراجات هذا الفريق، فهو الوقت الذي لا تلعب عقاربه لمصلحة زعيمه سعد الحريري. الرجل مستعجل للعودة من الباب العريض ليكون سيّداً على أرض جمهوره، فيستعيد زمام الأمور التي تتفلت من بين يديه بسبب التشققات والخلافات التي تشلّع أجنحة بيته الداخلي وتجعله عرضة للتمزّق والتفتت.