ليس أمراً قليل الدلالات أن يبدو “دومينو الإنحدار” في لبنان مثل القدر الذي لا يُردّ في التراجيديا الإغريقية. ولا أن يصبح الكلام على اللايقين بالنسبة إلى مستقبل الوطن الصغير مسألة عادية في يومياتنا. حتى من يعمل للوقوف في وجه “الدومينو” فإنّه يجد من يقف في وجهه، ومن يراه مثل دونكيشوت يحارب طواحين الهواء، ومن يتصور أن ما يقوم به هو تمارين في العبث. ومن يسمع ويقرأ لغة التشاتم السفيه في السجالات التافهة بين السياسيين وتابعيهم، بعد عقود من الحوار الفكري الرفيع، يتخيّل أنّه يقرأ ورقة نعي على العمود أمامه: الرحمة للدولة والبقاء للمافيا. والثلاثية الجديدة في سوق الثلاثيات الذهبية والماسية والفضية والخشبية والتنكية هي: الإنهيار المالي والإقتصادي، الإنحلال الدولتي والسلطوي، والإنحطاط السياسي والأخلاقي.
ذلك أن علينا، وسط القلق الحياتي والمعيشي اليومي، الذهاب إلى كثير من القلق الوجودي حين يقول لنا وزير خارجية الفاتيكان الزائر المونسنيور بول ريتشارد غالاغر: “نخشى ألا يكون مستقبل هذا الوطن مضموناً”. صحيح أنّ الفاتيكان لا يقول كلمته ويمشي بل يعمل لتجسيد قول البابا فرنسيس: “لبنان لا يُمكن أن يُترك رهينة الأقدار”. لكن الصحيح أيضاً أنّ الضامن الأول لمستقبل لبنان هو اللبنانيون والمهدِّد الخطير لمستقبل لبنان هو اللبنانيون. فلا قوة إقليمية أو دولية قادرة على أن تعمل من أجل ما سمّاه وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان “زوال لبنان” من دون أدوات لبنانية. ولا قوة تستطيع أن تضمن لبنان من دون اللبنانيين. حتى قول البابا يوحنا بولس الثاني إن “لبنان أكثر من وطن، إنه رسالة”، فإن غالاغر يضيف إليه القول: “من السهل أن نقول لبنان الرسالة، ولكن علينا العمل معاً من أجل أن تصبح هذه الرسالة حقيقة وملموسة”.
والحديث عن أزمة وجود يتجاوز بالطبع الحديث عن أزمة حكم وأزمة نظام. والتركيبة العاجزة عن حل أزمة الحكم الحالية عاجزة بالتأكيد عن مواجهة أزمة النظام وأزمة الوجود. والإستعصاء مخيف: من يقول إن النظام مفلس يعترف بأنه قوي في الوقت نفسه. ومن يرى أن المشكلة ليست في النظام أو في الدستور بل في سوء إدارة السلطة في النظام، يعرف أن إعادة تفعيل النظام تحتاج إلى تركيبة سياسية مختلفة، لا مجرد إدارة جديدة. لا بل إن التغيير نحو الأفضل أصعب من إدارة النظام كما هو. والتغيير نحو الأسوأ خطير حتى على القوى التي تعمل لوراثة لبنان وإقامة “لبنان آخر” معاكس لتاريخه وهويته وانتمائه وثقافته، لأنه يرتّب عليها مسؤوليات أكبر منها. والخيار أمامها، إلى جانب التحديات الداخلية إقتصادياً وسياسياً وأمنياً، هو إما عقد صفقة تتخلى فيها عن شعاراتها وإما مواجهة حرب.
يقول دنيس جابور الحائز جائزة نوبل في الفيزياء: “لا يمكن توقع المستقبل، الممكن هو اختراع أكثر من مستقبل”. وهذه مشكلة لبنان.