لا تمكن المقارنة بين الواقع الذي كان عليه «تيار المستقبل» بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري في العام 2005، وبين واقعه الحالي. فتيار المال والأعمال والخدمات والانتصارات الانتخابية والحالة الشعبية التي كانت تملأ الساحات، بات أسير الاحباط الذي يرخي بثقله على كل مكوناته.
يبدأ هذا الاحباط من الرئيس سعد الحريري «المغترب» قسرا، والرازح تحت وطأة أزمة مالية قاسية لا حلول لها في الأفق، مرورا بنوابه وقياداته ومنسقيه الذين يواجهون تخبطا سياسيا وداخليا، وصولا الى الكوادر والموظفين على إختلاف فئاتهم والذين يعانون من تداعيات الأزمة المالية الى حدود الاختناق.
ينتظر اللبنانيون يوم غد إطلالة الرئيس الحريري في احتفال الذكرى الحادية عشرة لاستشهاد والده، حيث من المفترض أن يؤكد على الثوابت الاقليمية لـ «التيار الأزرق» سوريا وإيرانيا وسعوديا. أما بالنسبة الى الوضع الداخلي اللبناني فسيؤكد الحريري تمسكه بمبادرته في ترشيح رئيس تيار «المردة» النائب سليمان فرنجية، والاصرار على الحوار بشقيه الوطني والثنائي، والاستمرار بتفعيل العمل الحكومي، وتقديم عرض عن واقع مؤسساته والدعوة الى مزيد من الصبر، فضلا عن محاولته الدائمة لاستنهاض الشارع، من خلال إثارة عاطفته حيال معاني الذكرى، وتأكيد التمسك بمعاقبة المجرمين من قتلة رفيق الحريري وسائر الشهداء… وصولا الى قضية ميشال سماحة.
لا يخفي قياديون في «المستقبل» أن الحريري غير قادر على تقديم أي جديد، خصوصا أن خطابه لن يحمل حلولا لأي من المشاكل، كما أن استنهاض الشارع سيكون أشبه بالمهمة المستحيلة، خصوصا أن «التيار» لم يحقق أي انتصار سياسي فعلي، ولا يقاتل دفاعا عن عقيدة أو «أسطورة» كما يفعل غيره، بل يسعى دائما الى مخاطبة العقول، بما يؤدي الى تراجع العاطفة الشعبية القائمة التي تحركها المواقف الشعبوية.
ويرى هؤلاء أن ما يزيد الطين بلة على المستوى الشعبي هو التنازلات السياسية المتكررة التي وصلت الى حدود تبني ترشيح أحد أبرز القيادات في قوى «8 آذار»، والانقلاب على كثير من الشعارات التي كانت تحرك الشارع، يضاف الى ذلك التوقف القسري عن كفالة الناس منذ العام 2009 في ظل وضع اقتصادي بالغ الصعوبة.
وينتقد هؤلاء بشدة كثيرين من قيادات الصف الأول في «التيار» ممن جنوا ثروات طائلة خلال حياة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وبعد استشهاده، وعبر كثير من الصفقات، ويحجمون اليوم عن تقديم أية مساعدة، ويمسكون أيديهم عن حل أبسط المشاكل المالية التي يواجهها «التيار».
ساهم غياب الرئيس الحريري عن قيادة «المستقبل» والاشراف المباشر عليه بداعي وجوده خارج لبنان وترك هذه المهمة الى نادر الحريري وأحمد الحريري، في زعزعة «التيار» من الداخل، وبروز عدد من الأجنحة التي تتصارع حينا وتتمرد أحيانا، وبات كل منها يبحث عن شعبيته بمعزل عن «التيار»، أو يستفيد من تراجعه لتحصيل بعض المكاسب، الأمر الذي يؤدي الى صراع خفي بين أحمد الحريري وكثير من النواب والقيادات.
لكن الأزمة الأساسية التي يرزح «المستقبل» تحت وطأتها هي الشح المالي الذي بلغ درجة متقدمة، حيث تتفاقم الأزمة المالية منذ سنتين بشكل مطرد من دون القدرة على إيجاد حلول لها، وقد ترجم ذلك في مختلف المناطق اللبنانية ببيع الكثير من العقارات العائدة لعائلة الحريري، وتعثر كل المكاتب والمؤسسات والمستوصفات التي إما أقفلت أو تعمل بحدها الأدنى، إضافة الى وقف الخدمات الطبية والاستشفائية، حتى وصل الأمر في الأول من شباط الى قيام صيدليات في مناطق لبنانية عدة بابلاغ كوادر وموظفين بامتناعها عن صرف الأدوية.
وينسحب هذا الأمر أيضا على الآلاف من الموظفين في مؤسسات «التيار»، لا سيما في «جريدة المستقبل» و «تلفزيون المستقبل» وبيت الوسط والأمانة العامة والمنسقيات والمكاتب العائدة لها، فضلا عن المتفرغين والعاملين في الأمن والحراسات والتنظيف والسائقين وغيرهم ممن لم يقبضوا رواتبهم منذ أكثر من عشرة أشهر، الأمر الذي أدى الى انقلاب حياة الكثيرين رأسا على عقب، حتى بلغ الأمر ببعضهم حد نقل أولادهم الى مدارس مجانية أو رسمية، والى ملاحقتهم من قبل المصارف بسبب إحجامهم عن دفع سندات القروض.
ولا يقتصر الأمر على لبنان، بل ما خفي في مؤسسات الحريري في السعودية، لاسيما شركة «سعودي أوجيه»، كان أعظم. وتقول المعلومات في هذا الاطار إنه تم صرف العديد من الموظفين الذين عادوا مؤخرا الى مناطقهم في عكار وطرابلس بيروت وصيدا والبقاع، وإن الآلاف من الموظفين يعانون أزمات مختلفة أبرزها توقف رواتبهم لأكثر من ثلاثة أشهر، ما يدفع السعودية الى عدم تجديد إقاماتهم والى تجميد حساباتهم المصرفية، وحجز حسابات من لديه قروض، حيث أن 30% من الموظفين باتت إقاماتهم بحكم المنتهية، ما جعل المتضررين يلجأون، ولأول مرة في المملكة، الى التحركات الاحتجاجية على الأوضاع التي وصلوا إليها.
ويكشف أحد الموظفين أن هذه الاحتجاجات بدأت تتخذ منحى تصعيديا في بعض مواقع العمل العائدة للشركة لجهة التظاهر واستخدام العنف، لافتا الانتباه الى أن بعض مراكز الشركة باتت تفتقر الى الصيانة واللوازم الأساسية، وأنه تم إبلاغ الموظفين بأن الشركة تخطط لاقفال معظم اقسامها، ما سيؤثر على نحو 30 الف موظف، علما أن كثيرا من هؤلاء لديهم تعويضات لا يعرفون مصيرها.
ومما يثير كثيرا من المخاوف أن ما تشهده مؤسسات الحريري في لبنان أو في السعودية، لم يعد ينعكس سلبا عليها أو على شعبية «تيار المستقبل»، بل بات ينذر بكارثة اجتماعية ـ اقتصادية على المستوى الوطني العام، نظرا لوجود عشرات الآلاف من العائلات التي تعيش على الأموال التي يرسلها أولادها لها، كما أن عودة الآلاف من الموظفين الى لبنان سيؤدي الى رفع نسبة البطالة في لبنان.
ويطرح ذلك العديد من التساؤلات حول قدرة الحريري على مواجهة هذه الأزمات، وانعكاس ذلك على تيار «المستقبل»، وكيفية مواجهة الاستحقاقات المقبلة.
يوضح قياديون في تيار «المستقبل» أن الرئيس الحريري تمكن خلال الفترة الماضية من تنظيم أوضاع شركاته في السعودية، وأن الأزمة الحقيقية تكمن في عدم دفع مستحقات هذه الشركات التي تخطت الـ 9 مليارات ريال سعودي، أي ما يعادل 2.4 مليار دولار، لافتين الانتباه الى أن المملكة تحجم عن دفع الأموال حاليا نظرا لانشغالها في حرب اليمن، وهذا الأمر انسحب أيضا على توقف الدعم المالي السعودي للرئيس الحريري.
ويلفت هؤلاء الى أنه بالرغم من كل تلك الأزمات فان نسبة التسرب من التيار ما تزال ضئيلة جدا، والملتزمون بالتيار اليوم هم من المؤمنين بنهجه وباعتداله، وهم مستمرون بالرغم من الأزمات المالية.