«داعش» يتقهقر تحت ضربات العسكر
ساعتان ونصف الساعة، هي المسافة الزمنية من بيروت إلى مركز قيادة الفوج التاسع في الجيش اللبناني في بلدة اللبوة البقاعية حيث نقطة الانطلاق في جولة ميدانية على مواقع الجيش المتقدّمة في الجرود بدعوة من قيادة الفوج لصحيفة «المستقبل»، رافقنا خلالها ضُبّاط وعناصر كانوا أكثر منّا حرصاً على سلامتنا وأمننا، من دون ان تخلو الجولة الميدانية من بعض التعليمات الضرورية التي لا بد منها في وضع مُلتهب يُشبه حرارة الطقس في الجرود الممتدة على مسافة أكثر من 45 كلم في العرض و35 كلم في العمق.
في الطريق إلى موقع ضهر الجبل الكاشف لبلدة عرسال ومخيماتها بشكل كامل وللجرود التي تتواجد فيها الجماعات الإرهابية لا سيما عناصر تنظيم «داعش»، وحيث كانت المحطة الأولى للمعاينة الميدانية، تُطالع الحاضرين مشاهد لضبّاط وعناصر الجيش وانتشارهم ومدى الإنظباط والتنظيم في التعاطي مع أهالي عرسال والنازحين السوريين الذين يعملون في المقالع في الجرود، بالإضافة إلى التقيّد الصارم بقواعد المعركة التي يخوضونها في مواجهة الإرهاب بشكل يومي بالإتكال على إرادتهم المتجذّرة بالأرض، لا على الطقس ولا الفصول، ولا حتى التسويات التي تحصل لا على الأرض ولا وراء الحدود أو الكواليس.
عند الاقتراب من نقطة ما، تظهر ملامح الغضب على وجه أحد الجنود الذي راح يُخبرنا عن المعركة الأولى التي تم فيها أسر العسكريين اللبنانيين على يد المجموعات الإرهابية. يُشير بإصبعه «هناك وقعت المأساة وهناك استشهد العقيد نور الدين الجمل». في لحظات من الزمن، يشعر المرء وكأن الأرض ستنطق بأسماء شهداء الجيش والأسرى. في كل رقعة على طول الطريق الممتدة إلى الجرود، ثمة حكاية أو أكثر لعشاق وطن يُخبر رفاقهم عنها وعن بطولات لا تملّ الألسنة من تكرارها ولا تشبع الأشجار التي تتمايل مع نسيم الصباح من سماعها. هذا الحنين المولود من رحم البطولات والذي تُستعاد لحظاته المؤلمة في الذاكرة، لا يُمكن أن يقطعه أي حدث لا يكون على قدر وأهمية الحدث. وفي تلك الأثناء ترد معلومة أن الجيش تمكّن من ضبط شاحنة بداخلها مواد كيماوية مخصّصة لصناعة المتفجرات كانت تتجه صوب الجرود عبر احد المعابر.
ضهر الجبل، موقع يُمكن من خلاله رؤية المساحات الجغرافية التي تتوزّع ضمنها الجماعات المُسلّحة المنتشرة في الجرود، وهي لا تقلّ عن عشرة فصائل بين البعض منها تحالفات، وعداوات مُستحكمة بين بعضها الآخر وتحديداً بين «داعش» و«النصرة» التي تصل المسافة بينهما في عزّ الاقتتال بحسب المعلومات التي زوّدنا بها الجيش، إلى أقل من 50 متراً، علماً أن المسافة الفعلية بين مواقعهما هي كلم تقريباً. أمّا المسافة التي تبعد بين مواقع الجيش و«النصرة»، فهي لا تتجاوز الـ 500 متر، لكن المسافة بينه وبين «داعش» هي 7 كلم تقريباً. وعن الإشتباكات التي تقع بين الجماعات المسلحة في الجرود من وقت إلى آخر، فهي تعود بحسب مصادر عسكرية إلى أن «داعش» أصبح محاصراً بشكل كامل من الجهتين اللبنانية والسورية، وهو يحاول التقدم باتجاه مناطق «النصرة» لسببين: الأوّل يتعلق بمحاولة الحصول على مؤن غذائية بعد نفادها تقريباً من مخازنه، والأمر الثاني يتعلّق بإيجاد أرضية يُمكن أن يستغلها لتأمين نفوذ له، وهو يعتقد أن بإمكانه تحقيق مراده من خلال النازحين السوريين المتواجدين في مخيمات عرسال والجرود، وعادة ما يوجهون هجومهم نحو وادي حميد.
من موقع ضهر الجبل إلى موقع ثنية الفاكهة الذي يبلغ ارتفاعه 1550 متراً عن سطح البحر، كانت خطوة الإنتقال الثانية. من وراء زجاج آليات «الهامفي» المقاوم للرصاص، يُمكن مشاهدة الطرق التي كان يتسلل إليها الإرهابيون أو بالأحرى التي كانوا يتواجدون فيها قبل أن يطردهم الجيش باتجاه العمق الجردي. نسأل الضابط المسؤول عن نقلنا إلى الموقع الآخر، عن خطورة الوضع في الأرض التي نتواجد عليها وعن احتمال وقوع تفجيرات، فيُطمئننا بأن وحدات الهندسة في الجيش تقوم على مدار الساعة بالكشف على جوانب الطرق المؤدية إلى المواقع بالإضافة إلى عمليات الرصد التي يقوم بها الجنود على مدار الساعة سواء في الليل أو النهار. وهل من احتمال أن تعود الجماعات الإرهابية لتُسيطر مُجدداً على هذه المواقع وخصوصاً التلة الحمرا و «666» وخربة داوود؟ يُجيب الضابط: «لا يوجد احتمال ولا واحد في المليون. ولعلمكم أن داعش آثر الإبتعاد عن مواقعنا بهذا الشكل، كي يبقى بعيداً عن مرمى نيراننا، ومع هذا فإن عملياتنا ضده لا تتوقف لا في البر ولا من السماء سواء من خلال الطائرات المروحية والطائرات من دون طيّار».
تتراوح أعداد المُسلحين في المواقع في الجرود المواجهة للجيش، بين 2000 و2500 مقاتل، بينهم 2000 مقاتل لـ «داعش» و700 مقاتل لـ «النصرة». ويتوزع الباقون على مجموعة تنظيمات من بينها «الجيش السوري الحر»، «أهل الشام» وبعض الأسماء التي تتبدل من وقت إلى آخر لأسباب تتعلق إمّا بالتحالفات والخصومات في ما بينها، وإمّا بهدف إعطاء دفع معنوي جديد للعناصر بسبب الإنهيارات التي تلحق بهم. لكن كل هذه الأمور، لا تحمل لا في خلفياتها ولا مضمونها أي أهمية بالنسبة إلى الجيش الذي هدفه الأساس حماية بلدة عرسال وأهلها من الإرهاب الذي يفعل المستحيل لدخولها مُجدداً من دون ان يُفلح «لا اليوم ولا في المستقبل». وأكثر من مجرد الدفاع عن البلدة وناسها، تؤكد مصادر عسكرية أن «طموح الجيش في الحرب التي يخوضها في مواجهة الإرهابيين في الجرود، هو طردهم باتجاه الحدود السورية، وهذا الأمر يرتكز بالدرجة الأولى على عاملَي الزمان والمكان المناسبين»، ويُدرجها الجيش ضمن سياسة «القضم البطيء».
في قراءة في مشهدية أي معركة حسم يُمكن أن يُنفذها الجيش قريباً ضد الجماعات الإرهابية، من الطبيعي أن يكون توقيتها مرتبطا أيضاً بالظروف السياسية والمفاوضات التي تسير على أكثر من خط لجهة ما يتعلق بخروج «النصرة» من الجرود والجهة التي سوف تُحدد لذلك، وهو الأمر الذي يجعل الجيش في حالة جهوزية تامة ودائمة لأي استحقاق عسكري قد يواجهه، علماً بأن أي تطور من هذا النوع، يحتاج أيضاً الى مواكبة سياسية من الحكومة التي ستكون معنية بمواجهة هذا الاستحقاق سياسياً في الداخل والخارج. والملاحظ أن الحكومة الحالية لم تألُ جهداً في تقديم كافة أنواع الدعم للمؤسسة العسكرية، سواء الدعم المعنوي أو المادي المتمثل بالهبات العسكرية التي تُقدمها مجموعة من الدول.
ضُبّاط الجش وعناصره في الجرود، في حالة استنفار دائمة، فوهة المدافع والبنادق موجهة على الدوام باتجاه الجرود. «لدينا مناظير ليلية تُمكّننا من مراقبة معظم التحركات، لكننا بحاجة إلى معدات أكثر تطوّراً». كل هذه المعنويات تجعل من عرسال اليوم، بلدة آمنة إلى حد كبير مع خوف دائم من بعض محاولات الإختراق باتجاه الأراضي اللبنانية ومن المعارك التي تحصل بين المسلحين أنفسهم وهو ما ينعكس دائماً على وضع المخيمات في البلدة خصوصاً وأن عناصر من «داعش» تعمد بين الحين والآخر إلى التقدم نحو الجهة اللبنانية حيث تقوم بقصف مواقع الجيش بقذائف الهاون. في حين أن مدافع الجيش من نوع 130 ملم موزعة بشكل متشابك «عنكبوتي» ما يُمكّنها من منع أي عملية تسلل أو اختراق عسكري من أي جهة كانت.
المؤكد أن ثمة قراراً داخل قيادة الجيش يقضي بالتعامل بحزم وحسم مع الحالة الإرهابية في الجرود اللبنانية كافة، وخصوصاً عرسال التي يعتبرها هؤلاء بمنزلة رهينة بين أيديهم على الرغم من قرار أهلها غير الخاضع للشك ولا حتى للتأويل في ما خص دعمهم اللامتناهي للشرعية ولمؤسسة الجيش على وجه الخصوص. ولذلك تُعتبر مسألة تنظيف الجرود من الإرهابيين بالنسبة إلى الجيش، مسألة لبنانية بحتة لا تخضع لا إلى ظروف ولا إلى تسويات أو إملاءات خارجية. لذا فإن دعمه السياسي والعسكري الخارجي، يعود فقط الى نجاحه في تثبيت الأمن على الحدود بعدما ظلّت لفترة طويلة مُستباحة من قبل الإرهابيين و«فالتة» أمام الإنتحاريين وسياراتهم المُفخّخة. والأهم أن الجيش ومن خلال العمليات النوعية التي يُنفذها، عاد ليرسم خطوط سير المعارك التي يخوضها في الجرود، وليقول للأقربين والأبعدين، إن الممرّات التي كانت تُعتبر في ما مضى «آمنة»، ما عادت كذلك اليوم، وإن محاولات التسلل إلى داخل الوطن ذهبت إلى غير رجعة بعدما أصبحت قصصاً من نسج الخيال، وبالتالي لم يعد تطبيقها مُمكناً على أرض يطوقها الجيش بنيران مدفعيته وثبات عناصره.
الأجواء في عرسال بدت هادئة أمس، فلا شيء يُعكّر صفو البلدة، سوى وضعها الإجتماعي الناجم بالدرجة الأولى عن أزمة النازحين وإزدياد عددهم بشكل لا يُحتمل. تحديد عدد سُكان أهالي عرسال ليس بالأمر الصعب على الإطلاق كونه لا يتجاوز الأربعين ألف نسمة، لكن المعضلة الكبيرة هي في عدد النازحين الذين يزيدون عن مئة وعشرة آلاف نازح، أي ثلاثة أضعاف عدد «العراسلة» تقريباً، وهذا ما يجعل الشكاوي تتزايد من أهالي البلدة وهم الذين عبّروا إلى حد كبير عن فرحتهم، عند عودة جزء من النازحين إلى سوريا الاسبوع المنصرم. ويأمل «العراسلة» اليوم، أن تُستكمل العودة لتشمل جميع النازحين خصوصاً في ظل معلومات تتحدث عن إستكمالها مباشرة بعد إنتهاء شهر رمضان.
تنتهي الفترة المُحددة للجولة الميدانية، إكرام الضيف واجب يعرفه الجيش عز المعرفة وهو أهل له في مواقفه وفي تصرفات وإنظباط ضباطه وعناصره. الإستنفار العسكري واللوجستي ظل على حاله إلى حين موعد المغادرة، فآليات «الهامفي» جاهزة لتُعيدنا إلى النقطة التي منها إنطلقنا في جولتنا الميدانية الصباحية. يسأل الضابط المسؤول عن الجولة وهو برتبة عقيد «نرجو أن نكون عند حسن ظنكم؟». لكن سؤال الضابط قابلناه بسؤال آخر، يتعلق بوضع الجرود وصعوبته خصوصاً لجهة تداخل المواقع فيه: «كيف تُصنّف وضع عناصر داعش اليوم في الجرود؟»، فيُجيب «أقصى طموحهم ان يبقوا على قيد الحياة،أو يبقى لهم وجود».