دار الزمن دورته على سعد الحريري. في بلاد اعتاد زعماؤها أن يرثوا الزعامة ويورّثوها، قليلون من كانوا يتخيّلون بأن يشهدوا يوماً تخلّي زعيم عن زعامته. جاءت الضربة القاضية للحريري من «بيت أبيه». عباءة الزعامة التي خلعتها السعودية عليه، في شباط 2005، نزعتها السعودية نفسها عنه عشيّة شباط 2022. «نهاية الحكاية» كتبها محمد بن سلمان لكي «تليق» بمن خاض نصف مواجهة، وامتنع عن خوض نصفها الآخر، بعدما لمس ربما بأنها قد تودي بالبلد. لذا، أراد ولي العهد «نهاية» تكون بمثابة تأديب مُبكِّر للطامحين إلى وراثة الحريرية السياسية، بأن هذا «مصير» كل من يعتقد أنه يستطيع أن يمارس نصف ولاء.
في خطاب «الاعتزال»، أو «تعليق» العمل السياسي، أمس قال الحريري إن مشروع والده «يُختصر بفكرتين: أولاً، منع الحرب الأهلية في لبنان، وثانياً، حياة أفضل للبنانيين. نجحت في الأولى، ولم يكتب لي النجاح الكافي في الثانية»، لافتاً إلى أن «منع الحرب الأهلية فرض عليّ تسويات، من احتواء تداعيات 7 أيار، إلى اتفاق الدوحة، إلى زيارة دمشق، إلى انتخاب ميشال عون، إلى قانون الانتخابات وغيرها. وهذه التسويات أتت على حسابي، وكانت سبب خسارتي لثروتي الشخصية وبعض صداقاتي الخارجية والكثير من تحالفاتي الوطنية وبعض الرفاق وحتى الإخوة». هذا ما قاله بوضوح. لكن ما قاله، مواربةً، إن التسويات هذه هي ما جرّت عليه غضب «طويل العمر» وحقده، وإنه خبر في السنوات الـ 17 الماضية أن لبنان هو بلد التسويات، لا المواجهات الخرقاء التي يريدها الأمير كتلك التي يخوضها في اليمن. والأهم، في ما لم يقله الحريري بوضوح، وأوحى به، أنه غير نادم على عدم الانصياع التام للرغبات الخرقاء لمحمد بن سلمان.
في كلمته المقتضبة، قطعَ رئيس تيار «المستقبل» الشك باليقين حيال قراره عدم المشاركة في الانتخابات النيابية المقبلة، وزاد على ذلك قرار الانسحاب من كل الحياة السياسية، مطلقاً رصاصة الرحمة على تياره عندما أعلن «من باب تحمل المسؤولية، ولأنني مقتنع بأن لا مجال لأي فرصة إيجابية للبنان في ظل النفوذ الإيراني والتخبّط الدولي والانقسام الوطني واستعار الطائفية واهتراء الدولة، دعوة عائلتي في تيار المستقبل لاتخاذ الخطوة نفسها، وعدم الترشح للانتخابات النيابية، وعدم التقدم بأي ترشيحات من تيار المستقبل أو باسم التيار».
في «بيت الوسط»، رمى الحريري الذي دخل مؤتمره الصحافي متثاقلاً ومجهداً، بالحِمل كله. أمس، بدا أشبه ما يكون بذلك الشاب المنكسر الذي أطلّ في قصر قريطم قبل 17 عاماً. تلا بيان «استسلامه» بعينين زائغتين تشبهان عينيه قبل خمس سنوات، يوم كان يتلو بيان «استقالته» من الرياض، تحت ضغط خاطفيه… ثم بكى وحده على المنبر. لم يُشاركه أحد البكاء. فالمتعاطفون قلائل، واللاهثون إلى ملء كرسيّه كثر!
«نهاية الحكاية» كتبها محمد بن سلمان لكي «تليق» بمن خاض نصف مواجهة
آخر «يوم عمل سياسي» للحريري، قبل إلقائه بيانه، كان «لايت». ألغِيت مواعيد كانت مقررة لكوادر ومسؤولين في تيار «المستقبل». اللقاء الوحيد كان مع السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا التي نقلت أوساط «بيت الوسط» أنها خرجت مستاءة، وأنها كغيرها من السفراء لم تستسِغ هذا الانسحاب.
خطوة الرجل لم تكُن عادية ولا مألوفة، لكن وقعها الشعبي لم يكن مدوّياً كما في مناسبات أخرى أقل وطأة، إذ اقتصر على تحركات محدودة وقطع طرقات في عدد من مناطق نفوذ تيار المستقبل، فيما علمت «الأخبار» أن اجتماعات عاجلة عقدتها تيارات وأحزاب لمناقشة هذا التطور وتداعياته في ظل غياب البديل، ما يمنح «المتطرفين» بيئة خصبة للعودة الى الساحة «على طبق من حرير»! وتواصلت شخصيات بارزة مع دار الفتوى لمناقشة عقد اجتماع موسع برعاية مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان وإصدار موقف مواكب لقرار الحريري.