فور إعلان الرئيس سعد الحريري تعليق مشاركته النيابية، خرجت بعض الأصوات للتحدّث عن وراثة تيار «المستقبل» من قبل «القوات اللبنانية» و»حزب الله» وغيرهما من القوى السياسية، فيما هذا التوصيف غير صحيح وأصحابه يجهلون طبيعة الاجتماع السياسي اللبناني.
يخلط البعض بين الخطاب العابر للطوائف في لبنان، وبين حدود تمثيل القوى الحزبية الطائفية والتي يتركّز تمثيلها الأساسي داخل بيئاتها، لأنّ حدود كل طائفة تقف عند حدود الطائفة الأخرى، ولا يشكل هذا الوضع انتقاصاً من تمثيل أي فريق سياسي ربطاً بطبيعة النظام السياسي اللبناني والبنية المجتمعية اللبنانية.
وطالما انّ التمثيل السياسي في لبنان هو تمثيل طائفي، وطالما لم يتمكن الشعب اللبناني من تجاوز هذا الواقع بسبب تغييب الدولة وتحول المواجهة إلى وجودية بالنسبة إلى الجماعات في لبنان، وطالما ان أولوية البعض ليست للبنان والدولة إنما لمشاريع تتناقض مع الطبيعة اللبنانية، وطالما ان لبنان لم يتحول إلى بلد طبيعي ونهائي ومستقر وأولوية الجميع فيه رفاهيته ونمط عيشه، فمن الطبيعي ان تتمسّك الطوائف بحسن تمثيلها ليس فقط تجنباً لتغييبها السياسي على غرار ما حصل في زمن الاحتلال السوري للبنان، بل من أجل ان تتمكن من المحافظة على وجودها الحر ونمط عيشها ورؤيتها إلى لبنان.
ولا تناقض إطلاقا بين التمثيل الصحيح للطوائف، وبين الخطاب العابر لهذه الطوائف، بل هذه التكاملية بالذات بين حُسن التمثيل والخطاب اللبناني أدت إلى إنجاح التجربة اللبنانية وصنعت من لبنان «وطن الرسالة»، لأن أحد شروط نجاح هذه التجربة ان تشعر الطوائف بأنها غير مستهدفة بتمثيلها وحضورها ودورها، وان تتقاطع كل هذه الطوائف حول المساحة المشتركة التي تسمح بقيام دولة، وإلا ستبقى الطوائف في حال من التناحر والانقسام والخلاف والحروب الساخنة حيناً والباردة أحياناً، والعاجزة في كل الأوقات عن بناء تجربة ناجحة للتعايش على غرار ما هو حاصل منذ خمسة عقود إلى اليوم.
ولولا الحرب اللبنانية وما تبعها من منع قيام للدولة لكان بالتأكيد سقط حاجز الخوف بين اللبنانيين وتطورت تجربتهم كثيراً، ولكن يستحيل تطوير هذه التجربة قبل فترة طويلة من الاستقرار ووصول جميع اللبنانيين إلى قناعة راسخة أن لا أولوية تعلو على أولوية المصلحة اللبنانية والتي عمودها الفقري دولة ودستور وسيادة وقانون وحياد، وخلاف ذلك كل الكلام عن تمثيل هذا الحزب او ذاك التيار لبيئة غير بيئته هو وَهم ولا يعكس واقع الحال، وان يكون لهذا الفريق نائب من هنا او من هناك لا يعني تمثيل وجدان هذه الجماعة أو تلك.
ومن هذا المنطلق يجب التمييز بين الخطاب السياسي لفريق معيّن والذي يتجاوز حدود بيئته ويمثِّل تطلعات شريحة واسعة من اللبنانيين، وبين تمثيل هذا الفريق لبيئة غير بيئته، كما يجب التمييز بين ان ينجح هذا الحزب أو ذاك التيار بضمّ عدد من النواب إلى تكتله النيابي من خارج بيئته، وبين عدم قدرته على تمثيل وجدان هذه الطائفة او تلك والتي لا يمثّلها سوى الفريق المنبثق من داخل هذه البيئة ومعاناتها وأوجاعها وتطلعاتها ومخاوفها ورؤيتها وأهدافها…
وهذا الكلام ليس طائفيا، إنما يعتبر تجسيداً لواقع الحال والذي من الخطأ مقاربته بالمزايدات حينا، والتهرُّب من توصيف الواقع على ما هو عليه أحيانا، فلا أحد يستطيع ان يرث تيار «المستقبل» من خارج البيئة السنية، ولا أحد بالمقابل يستطيع ان يرث «القوات» و»التيار الحر» وغيرهما من خارج البيئة المسيحية، ولا أحد يستطيع ان يرث «التقدمي الاشتراكي» من خارج البيئة الدرزية-الجنبلاطية، ولا أحد يستطيع ان يرث «حزب الله» و»أمل» من خارج البيئة الشيعية.
فتمثيل كل حزب او تيار هو داخل بيئته أولاً، وهذا التمثيل تتم ترجمته داخل البرلمان اللبناني، وبقدر ما يستطيع كل فريق ان يشبك مع قوى وشخصيات من داخل البيئات الأخرى ضمن إطار وحدة رؤيا وأهداف، بقدر ما يتحول خطاب هذا الفريق إلى خطاب عابر للطوائف، ويستقطب المؤيدين من الطوائف الأخرى، ولكن التمثيل هو تمثيل طائفي، وهذا التمثيل يجب ان يكون حقيقيا لا مصطنعا من خلال قوانين انتخابية معلبة وظيفتها مصادرة تمثيل الطوائف الأخرى من قبل بعض القوى وان تتذرّع هذه القوى بأنها عابرة للطوائف بتمثيلها، فيما العبور وحتى إشعار آخر هو عبور في الخطاب السياسي وليس في التمثيل الطائفي.
فكل الكلام عن وراثة «المستقبل» من خارج البيئة السنية يدخل في سياق الحملات المبرمجة التي يقودها محور الممانعة من أجل التحريض السياسي باتجاهين: التحريض ضد «القوات اللبنانية» التي لم تدعِّ يوما بأنها سترث فلاناً او علتاناً، إنما تواصل خطابها السيادي الـ14 آذاري في مواجهة المشروع السياسي الآخر، وكل الكلام عن محاولات فصلها بين القيادة السنية والقاعدة غير صحيحة على الإطلاق، لأن خطابها موجّه لجميع اللبنانيين من دون استثناء، وتتواصل مع من تلتقي معهم في روحية هذا الخطاب ضمن الطوائف الأخرى.
والتحريض الآخر هو ضد البيئة السنية من أجل ان تكون في حالة عدم توازن خشية من ان تتبلور اتجاهات راديكالية في التوجه الوطني والسياسي مواكبة للتوجه الراديكالي الخليجي في مواجهة المشروع الإيراني وأذرعه على مستوى المنطقة، وبالتالي خشية 8 آذار من ان تنتقل هذه البيئة من مرحلة ربط النزاع إلى فك هذا الربط باتجاه المواجهة السياسية، خصوصاً انّ «حزب الله» يعلم تمام العلم بأنّ البيئة السنية سيادية بامتياز، وانّ هذه البيئة لا يمكن ان تكون خارج عمقها الخليجي والسعودي تحديدا، وهذا ما يفسِّر تحريضه المتواصل في لحظة هجوم سعودي غير مسبوق عسكرياً في اليمن وديبلوماسياً في لبنان، وتوحيد الصفّ الخليجي في مواجهة المشروع الإيراني على مستوى المنطقة.
وعلى رغم ان أحداً لا يشكِّك بتمثيل تيار «المستقبل» داخل البيئة السنية، ولكن الحياة لا تحتمل الفراغ، ولم تتمكن «القوات» و»التيار الحر» من الحفاظ على حضورهما داخل البيئة المسيحية على رغم الاعتقال والنفي والحظر السياسي، سوى بسبب مواصلتهما للنضال والمواجهة، وتعليق «المستقبل» لمشاركته النيابية هو تعليق طوعي خلافاً لما أرغم عليه «القوات» و»التيار»، ما يعني انه في حال لم يضع «المستقبل» خطة بديلة تبقيه على قيد الحياة وطنيا وسياسيا، فإن الفراغ سيُملأ بشكل أو بآخر، خصوصا ان التعليق لم يترافق مثلاً مع الدعوة إلى مقاطعة سنية للانتخابات وفق أسباب موجبة تتركّز حول ضرورة الانتقال بالمواجهة إلى فصل جديد عنوانه فك الارتباط مع «حزب الله» في كل المؤسسات والطلاق معه، لأن كل التسويات فشلت فشلا ذريعا، ولم يبق سوى الطلاق تمهيدا لعملية جراحية لا تسوية ترقيعية.
ويختلف الخروج الطوعي من الحياة السياسية عن الخروج القسري على غرار حقبة الاحتلال السوري، لأنه من خلال الكتلة البرلمانية يكون له تأثيره الحكومي وفي الانتخابات الرئاسية وكل الاستحقاقات المتصلة بالتكليف والتأليف والحركة داخل السلطة والبرلمان والمؤسسات، وهذه الحركة شكلت جزءا لا يتجزأ من المشروعية السياسية لـ»المستقبل» الذي اعتاد على السلطة لا المعارضة، ولكن يبقى انه باستطاعته ان يحافظ على مكانته الشعبية وداخل وجدان بيئته في حال وضع خطة سياسية مرحلية تميِّز بين تعليق مشاركته السلطوية، وبين تكثيف حضوره الوطني والسياسي.
ويبقى انه لا أحد يستطيع ان يَرث تيار «المستقبل» في حال كثّف حضوره السياسي، وبالتالي يستطيع ان يحافظ بشكل أو بآخر على وضعه ومكانته لتقطيع مرحلة سياسية محددة، خصوصا انه الأقوى داخل هذه البيئة ويمثِّل وجدانها، ولكن في حال امتدّ تعليق المشاركة إلى تعليق الحضور في الحياة الوطنية، فيصبح هناك كلام من نوع آخر وفي طليعته من يملأ الفراغ من داخل هذه البيئة حصراً لمواجهة المشروع الآخر الذي خطف الدولة وعزل لبنان وأفقر الناس، لأن المواجهة الحقيقية أمس، اليوم، وغداً هي مع محور الممانعة، ولا حياة طبيعية سوى بعد ان ينهزم مشروع هذا المحور في لبنان والمنطقة.