الاستنكاف المسيحي عام 92 تجربة مدمِّرة.. والعبرة باستخلاص العِبَر
لم يأتِ خروج (المُسمّى تعليقاً) سعد الحريري من الحياة السياسية، لا من خارج سياق 3 تشرين الثاني 2017، ولا من خارج الأشهر التسعة التي قضاها مكلّفاً من دون قدرة على التأليف. فالقرار المتخذ كبيرٌ، ليس أقلّه تجميد الحريرية السياسية والعائلة على حد سواء، والعمل على توزيع الإرث والنفوذ والتأثير والقاعدة على أكثر من جهة وحزب ومجموعة ومنطقة. وفي هذا الإطار تحديداً، تُفهم نقمة تيار «المستقبل» على رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع بإعتباره أول من سلّم بتنحية الحريري إبان محنته في الرياض، وأول من جاهر برغبة صاعقة لوراثة الإرث المستقبلي السياسي والنيابي. ولا تخفى الدينامية القواتية في طرابلس والبقاع الشمالي بالتعاون مع نافذين خارجين عن الطاعة الحريرية منذ محنة الـ 2017. لذا أتى إتهام الحريريين لجعجع صاعقاً بحجم مفعول تلك البحصة التي غصّ بنطقها الحريري منذ أزمته.
لكن خروج الحريري على ضخامته السياسية طغى عليه مآل قيادة الطائفة من بعده.
لا مصلحة وطنية في تغذية الإحباط والاستنكاف عن المشاركة في الحياة السياسية
أ- فالسنيّة السياسية التي حيكت عناصرها بعد 14 شباط 2005، تعرّضت مثل نظيرتيها المارونية السياسية المتأثرة بإتفاق الطائف بعد 46 عاماً من الحكم والتأثير والتألق، ومن ثم الإنتحار التدريجي، والشيعية السياسية التي تحكم راهنا، ثنائيا، بألق السلاح ووهجه وتضخّم الدور الإقليمي.
ب- والسنية السياسية التي مرت في غضون أعوام قليلة من ولادتها، بمحنة واضحة بافتقاد الزعيم الملهم، رفيق الحريري بما له تأثير وعلاقات وصداقات وبرنامج عمل مكثّف تُسخّر في سبيله القدرات والأموال. ولا يُعاب، ها هُنا، الحريري الإبن على تعثّر، لا بل من الجهل والظلم بمكان مقارنته بوالده. فالمملكة غير، والحقبة كذلك، والتعقيدات التي واجهته ظلّت أكبر من قدرته ومحيطه على تفكيكها. أضف أنه سُمّي زعيماً متوّجاً على طائفة وحزب من غير أن يمرّ بمندرجات التأهيل الزعاماتي والسياسي، لرغبة الحريري الأب في كل ولايته السياسية بإبعاد العائلة الصغيرة بأكملها عن أي وزنة أو دور.
ج- والسنية السياسية تعاني ما تعانيه راهنا، وقبلا لسنوات مضت، نتيجة الحريرية نفسها التي تضخّم دورها في التسعينات بفعل ألق المؤسِّس ووهجه المالي والسياسي، مما حتّم أفول زعامات وتغييب فروع وتحجيم كثر، حتى إقتصرت الطائفة على الشخص. ولا فرق هنا إن كانت الحصرية نتيجة تضخّم الدور أو بفعل رغبة سامية بفرض الحصرية الزعماتية وجعْل مربط خيلها واحدا وحيدا، لا موزعة بين العواصم والولاءات كما قبل الطائف.
تزيد تلك المشهدية في إلحاح السؤال عن قيادة الطائفة. هل تُقزّم في لجان فاحصة؟ أم تتوزّع على بيوتات التقليد والمناطق؟ أم تكون في مرحلة إنتقالية صعبة، بدور قواتي متقدّم، الى حين عودة الحريري أو تأهيل قيادة جديدة؟
كما تزيد المشهدية في إلحاح السؤال عن مآل الطائفة سياسيا وسلطويا، والبلد على أعتاب إستحقاق نيابي صارخ تريده قوى التأثير الخارجي إستفتاء لمصلحة إستنباط نيو طبقة سياسية ترث أنماطا آفلة أو مؤهلة للأفول.
ولأن حدث خروج الحريرية بالضخامة التي هو عليه وبما تمثّل من غالبية سنية طاحنة، يصير لهث بعض الأحزاب والقوى لوراثة تيار «المستقبل» وكتلته وقاعدته قصورا في المقاربة والمعالجة. إذ لا مصلحة وطنية ولا كيانية في تغذية النزعة الى أي إحباط أو استنكاف عن المشاركة في الحياة السياسية والعامة. ولا إتّزان في دفع الإعتدال الى التقوقع المناطقي والطائفي. ولا حكمة في تغذية كل ذلك الخليط المتفجّر من الإحباط والتقوقع.
كل ذلك لا يُحبط أو يُفكك إلا بمخاطبة الوعي السني: ها هوّذا الاستنكاف المسيحي عام 1992 المثال الحيّ عن عقم الإحباط والانزواء والتشرنق وإشهار الطلاق مع الدولة ومؤسساتها. الإستنكاف المسيحي دفع ثمنه المسيحيون عقدين وأكثر، ولكن كذلك النظام الذي ظنّ، توهّما وقصوار وعجزا، أنه يعوّض الطلاق المسيحي للدولة بالاحتكام الى دولته العميقة وحفنة من أمراء الحرب وزعامات مناطقية ومصطنعة. فكان ما كان من تأسيس لتفكك النظام بكليته والإنهيار السياسي والإقتصادي الذي يهدد راهنا الكيان والدور والوظيفة.
والمصلحة الوطنية تفترض مخاطبة عاقلة لا استثمارية للقاعدة السنية الواسعة: الإحباط سمّ، والاستنكاف مقتلة، والتشرنق إنتحار إراديّ. وأي من ذلك لا يليق بكِ أو يستوي مع ذاكرة لبنانية حافلة بالشراكة والعلم والإعتدال، والأهم دور ميثاقي يوم التأسيس في تشرين 1943.