Site icon IMLebanon

الحرب المستمرة على الطائف: الحريري وهجرة الصقور المزيَّفة

 

في بداية شهر أيلول من كل عام يبدأ موسم صيد الصقور في «صحراء الحمّاد» الواقعة في منطقة الحدود الشمالية داخل المملكة العربية السعودية. أعداد كبيرة من الصقارين يحضرون إلى المكان من داخل البلاد ومن دول الخليج العربية لصيد أغلى أنواع الصقور أثناء عبورها في هجرتها السنوية إلى البادية الواقعة بين السعودية والعراق والأردن وسوريا. وكما في سماء الطبيعة، يتسع فضاء السياسة لهجرة الصقور في مواسم الانتخابات، وتبدل التحالفات، وتغير الأولويات، وسقوط الولاءات. وهكذا كانت هجرة صقور المستقبل المزيفة نحو صحراء المواجهة بعد ابتعاد الرئيس سعد الحريري أو إبعاده عن المشاركة في السباق الانتخابي وتعليق عمله السياسي بسبب عدم وجود فرصة إيجابية وحقيقية لهذا الوطن.

 

ما هو أخطر وأبعد وأعمق من صراعات هامشية خاضها صقور المستقبل المستقيلين من التيار الأزرق على مقاعد إضافية في مجلس نواب فولكلوري وخسروها أمام مرشحي المجتمع المدني والقوى التغييرية، وقوى الممانعة على السواء، هو  ما تكرس في شرذمة الخيارات لدى البيوتات السّنية العائلية والسياسية والدينية وعلى رأسها دار الفتوى التي خاضت معركة الحشد السني والحواصل المشتتة بشعارات وخطابات فضفاضة ساهمت بوصول مجلس نيابي «مفكك» و «منزوع من القيادة السنية والوطنية» التي كان يمثلها الرئيس المعتدل سعد الحريري. وكان الأجدى بهذه الدار الوطنية خوض المعركة الحقيقية قبل هذه الانتخابات من خلال اتخاذ المواقف الشجاعة والصائبة في اتجاه الداخل والخارج، والتي كانت كفيلة بعدم إخراج القيادة السنية من موقعها التاريخي في النظام السياسي اللبناني.

في الجانب الدستوري لا يزال التيار الرئاسي في حربٍ مستمرة على اتفاق الطائف وصلاحيات رئيس الحكومة – السني حسب العرف الدستوري – من خلال تجديد المطالبة من قبل رئيس التيار الوطني الحر بتعديل الدستور وتحديد مهلة شهر لرئيس الجمهورية لإجراء الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة، ومهلة مماثلة للرئيس المكلف لتأليفها. ومعنى ذلك أن يكون لرئيس الجمهورية «حق فيتو مزدوج» على شخص الرئيس المكلف من قبل الأكثرية النيابية من خلال عدم التعاون معه وتطيير مهلة الشهر كما حصل مع تضييع 9 أشهر عند آخر تكليف للرئيس الحريري، وكذلك على مطلق تشكيلة وزارية يمكن أن يقدمها الرئيس المكلف ولا تحظى بموافقة رئيس الجمهورية عليها بالرغم من استيفائها لكافة الشروط القانونية والدستورية، وهو ما يشكل مصادرة لصلاحيات الرئيس المكلف لحساب العودة إلى نظام رئاسي لا يشبه ميثاق العيش المشترك ونظام التوافق ومشروع قيام الدولة الذي أقره اتفاق الطائف في العام 1989.

الرئيس الحريري خاض آخر معاركه السياسية في الدفاع عن دستور الطائف قبل عزوفه عن الترشح للانتخابات النيابية. تمسك بتكليفه وصلاحياته ورفض توليه رئاسة «حكومة ميشال عون» كما أسماها. المعادلات الدولية وصلابة الموقف الوطني للرئيس «سعد الحريري» أخرجته من موقعه الطبيعي في رئاسة الحكومة اللبنانية، ويمكن إجمالها بما يلي:

1-تمدد نفوذ طهران في المنطقة، والدعم الإيراني المطلق والعلني للرئيس ميشال عون، وسياسة حزب الله في تعويم رئيس الظل على حساب الحلفاء في قوى الثامن من آذار.

2-التخلي السعودي الكامل عن لبنان  وتركه في مهب الريح بسبب هيمنة حزب الله على مؤسسات الدولة وقراراتها، والتخلي عن دعم الرئيس سعد الحريري وترك الطائفة السنية بدون قيادة وازنة.

3-التخبط الدولي والأميركي في ملفات المنطقة والعالم وتسليم مفاتيح التسويات المؤقتة في لبنان إلى فرنسا، واكتفاء واشنطن بتوجيه الدعوة إلى السعودية لمساعدة لبنان.

4-تراجع الدور الفرنسي وانكشافه لمصلحة الصفقات المقدرة بالمليارات بين باريس وطهران، والتسليم بتشكيل حكومة بشروط العهد و «حزب الله» من خارج الأصول القانونية والدستورية.

5-رهن عودة السعودية الى لعب دورها التاريخي والايجابي في لبنان بسلة شروط تفوق قدرة القوى المحلية على تحقيقها، وخاصة في مسألة سلاح المقاومة الذي يعتبر قضية إقليمية وفوق وطنية.

اليوم عادت السعودية الى لبنان من بوابة الانتخابات النيابية،  وكان لعودتها المتأخرة بعض نجاحات في الساحة المسيحية وإخفاقات أكثر على مستوى الساحة الإسلامية مع هزائم بالجملة لصقور المستقبل السابقين واللوائح المدعومة من رئيس الحكومة الأسبق «فؤاد السنيورة» في بيروت وصيدا وطرابلس وباقي المناطق. النجاح في إيصال كتلة نيابية أكبر لحزب القوات اللبنانية مقابل تراجع كتلة نواب التيار الوطني الحر لن يغير شيئاً في معادلة التسوية وشرط التوافق على رئيس الجمهورية القادم كما حصل مع انتخاب الرئيس ميشال عون.  في حينها كانت الأكثرية النيابية مع قوى 14 آذار ومرشحها «سمير جعجع» الذي رفض ترشيح الرئيس سعد الحريري لسليمان فرنجية كمرشح تسوية، وذهب باتجاه ترشيح عون كرئيس قوي! وهنا كانت بداية الكارثة وبداية الطريق من «معراب» إلى جهنّم. المفارقة والتراجيديا في أن البروباغاندا الموجهة ضد الرئيس الحريري ما زالت تحمله مسؤولية التسوية الرئاسية في حين أن المتسبب الفعلي بها قد بات الحليف الأول للرياض في لبنان.

أما نجاح المجتمع المدني والقوى التغييرية في إيصال بعض النواب وتسجيل خروقات مهمة في لوائح السلطة لن يشكل بطبيعة الحال رافعة لقوى 14 آذار التي يعتبرها ثوار 17 تشرين جزءاً من منظومة الفساد الحاكمة بالشراكة مع قوى 8 آذار. تنسيق المواقف في جبهة أو تحالف عريض يقود إلى أزمات أكبر وصراعات بلا جدوى، ومزيد من الخطابات النارية والشعبوية لن يفتح كوة في جدار الأزمة. قد تكون بداية عودة الدول العربية إلى لبنان خيراً، ولكنها عودة لن تؤتي ثمارها ما دام اختلال التوازن الوطني قائماً، وفي ظل الفراغ السني الذي أظهرته الانتخابات النيابية على مستوى القيادة السياسية والوطنية في غياب الرئيس سعد الحريري.