ما إن اندلعت الثورة حتى راج شعار”الثلاثون عاماً”، وصار يتردّد داخل الثورة التزاماً بشعار”كلّن يعني كلّن” أو خارجها، استكمالاً لحرب على نهج رفيق الحريري الاقتصادي شنّها نظام الوصاية واليسار القديم، وعبّر عنها كتاب “الأيادي السود” لنجاح واكيم، وتابعها “التيار الوطني الحرّ” في كتاب “الإبراء المستحيل” مرفقاً بشعار استعادة الدور المسيحي.
رفيق الحريري لم يكن يحتاج إلى حزب، لأنّ مشروعه لإعادة بناء الوطن والدولة يختلف عن مشاريع الأحزاب اللبنانية. هي تنافست خلال الحرب على الهدم لا على البناء، وتحوّلت بعدها حركات تحرّر وطني. بعد اغتياله صار تأسيس تيار “المستقبل” حاجة للحريرية لتعويض ما يستحيل تعويضه، خصوصاً أنّ تجربة وريثه في العمل السياسي انطلقت من الصفر.
شعار”الثلاثون عاماً” رفعه بعضهم تهرّباً من مسؤولية الثلاث سنوات، فيما ناء تيار “المستقبل” المستحدث بعبء النصف الأول من الثلاثين عاماً المليء بالانجازات، وبأثقال النصف الثاني المليء بأخطاء قاتلة ارتكبها سعد الحريري بحقّ نفسه وحلفائه وإرث والده، أولها زيارته الأولى لبشّار الأسد وآخرها وقوفه، كسنّي، مع رئيس الحكومة ضدّ القضاء، وبينهما تسهيل إقرار أسوأ قانون انتخاب في تاريخ لبنان والتشاور لتشكيل حكومة العهد الأولى بحضور صهر الرئيس، خلافاً لأحكام الدستور، وهو الخطأ الذي حاول الصهر أن يجعله من تقاليد العهد وحقّاً من حقوق المسيحيين بل من حقوق الإنسان، وكاد أن يضيفه على بنود دستور 1926 أو نظام كلخانة أو القائمقاميتين أو قانون حمورابي.
حاول سعد الحريري أن ينسحب من تلك الأخطاء في بيان استقالة حكومته استجابة لنداء الثورة، فلم ينقذه تعاطفه مع مطالبها، ولم يترك عمق الأزمة له ولا لتيّاره، مجال التمايز عن مكوّنات المنظومة الحاكمة التي تتحمّل مجتمعة وزر انهيار قادم سيجرف في طريقه الصالح والطالح.
صحيح أنّ سعد الحريري لم يتبرّأ من المسؤولية، بل وضع نفسه تحت سقف المحاسبة والمساءلة، لكن التبرّؤ من المسؤولية شيء ومن الفساد شيء آخر. فهو شريك في سلطة ضالعة بالفساد، وهو محاط بحاشية تضمّ بعض الأتباع ممّن شاركوا في صفقات الفساد المالي.
بعد عام على غيابه عن الحكومة، حاول سعد الحريري أن يستعيد دوراً وطنياً في الدفاع عن الدولة والدستور، غير أنّه تسرّع بدفع من حلفائه وخصومه على السواء، فبدا كأنّه يستعيد طائفة كادت تفلت منه ويتحصّن بها أسوة بسائر الأحزاب الطائفية، إلى أن تقلّص جمهور تيار “المستقبل” وانحسر وصار، ككلّ جمهور حزبي، يضرس من حصرم قياداته.
غير أنّ هذا الجمهور ظلّ متمسّكاً بالدفاع عن مشروع الدولة لا عن مشروع خاص بالطائفة السنّية يوازي أو ينافس مشروعي المارونية السياسية والشيعية السياسية. ذلك أنّ قيادات الطائفة، حتّى في أوج نفوذ الحريرية، وقفت بحزم ضدّ التيارات المتشدّدة التي لم تتمكّن من الهيمنة على الشارع السنّي، بالرغم من أجواء التوتّر والحرب والمساعدات الخارجية السخيّة. أمّا التنازع على الصلاحيات بين رئيسي الجمهورية والحكومة، وكذلك الكلام عن الميثاقية والشرعية، فليس سوى هذيان سياسي للتغطية على انتهاك الدستور.
من واجب الثورة فتح باب الانخراط في صفوفها أمام جمهور الرابع عشر من آذار، الحزبي منه وغير الحزبي، من دون قياداته. وإذا كان من حقّ الثورة محاكمة تلك القيادات محاكمة سياسية بتهمة إجهاض انتفاضة الاستقلال، فمن واجبها دعم السلطة القضائية لتحريرها وتأمين استقلاليتها، لتكون هي المسؤولة عن محاكمة منظومة الفساد.