Site icon IMLebanon

غابي لحّود وحقبة الحكم العسكري اللبناني

 

مسيرة صعود لحّود في جهاز الاستخبارات تزامنت مع بناء فؤاد شهاب سلطة مزدوجة

 

لو أن الأجيال لم تتعاقبْ في الصحافة اللبنانيّة، ولو أن صحافيّين من أجيال سابقة لم يتقاعدوا، أو لم يقصِهم غيابُ أو احتضارُ صحف عتيقة، لكانت الصحافة اللبنانيّة المكتوبة والتلفزيونيّة تعجّ بالتقارير والمقالات عن موت غابي لحّود. غابي لحّود كان ذا اسم يثير الرعب في الأنفس في لبنان على مدى رئاستيْن: رئاسة فؤاد شهاب وشارل حلو. ونفوذ غابي لحّود بلغ في عهد شارل حلو حدّاً أن الأخير كان يتذمّر من أن لحّود ينافسه على الرئاسة، مبعوثاً من لدن فؤاد شهاب.

 

وتذمّر الحلو من نفوذ «المكتب الثاني» (الذي رئسه لحّود في عهده) الذي أثّر على خياراته السياسيّة والتي أدّت، فيما أدّت إليه، إلى إيصال سليمان فرنجيّة رئيساً للجمهوريّة والقضاء على العهد الشهابي وعلى النفوذ الهائل للمكتب الثاني في لبنان.

غابي لحّود جسّد في شخصه حكم «المكتب الثاني» اللبناني. لم يرَ إيلي الحاج في جريدة «النهار» – على عادة جريدة «النهار» – إلا الجانب الطائفي (الماروني) في شخص لحّود. لكن الرجل كان حاكماً فعليّاً في لبنان، ينافس الحاكم الرسمي الآخر على إدارة شؤون البلاد. وعبادة الشخصيّة والهالة الأسطوريّة التي لا تزال تحيط بشخص فؤاد شهاب، منعت الكتّاب والمؤرّخين من رواية سيرة «المكتب الثاني» على حقيقتها. صحيح أن نقولا ناصيف بذل جهداً كبيراً في تجميع قصّة «المكتب الثاني» في كتابه الضخم لكنّه اعتمد فيه فقط على رواية ضبّاطها الكبار من دون تعريض دوره التاريخي لنقد وتمحيص (مثلاً، يروي لحّود أنه في فترة تدرّبه على المدفعيّة في أميركا «اخترع» طريقة لتحديد ضرب المدفعيّة وأصبحت تُعرف باسمه. لكن لا دليل على هذه القصّة إلا في حديث لحّود). وغسان شربل في مقابلاته مع غابي لحوّد، المقلّ في الظهور الإعلامي، لم يفعل إلّا كتابة أجوبة لحّود على أسئلته العامّة.

تحيط بدولة فؤاد شهاب الكثير من الخيالات. يُقال إنها كانت مثال «الدولة المدنيّة»، وأن شهاب – لو خلّد في الحكم – لكان نهضَ بلبنان إلى مصاف دول الغرب الكبرى التي كانت قدوة شهاب ومثاله الأعلى. (لم يكن شهاب يقبل رأياً خبيراً ما لم يكن مصدره أجنبيّاً، أو على الأقلّ مسنوداً بمصدر أجنبي. وبلغ من مرتبة الخبراء الأجانب في عهده أن الأب دوبريه كان يحثّه على التجديد لنفسه حتى عندما كان أقرب المقرّبين إليه يخشون من مفاتحته في موضوع كان يثير حساسيّته الشخصيّة لأنه أراد التجديد على طبق من ذهب من دون طلبٍ منه). وتسليط الضوء على حقبة الحكم العسكري اللبناني ضروري من أجل دحض ما يتصف به تصنيف النظام السياسي اللبناني في مرحلة ما قبل الحرب من دعاية سياسيّة لا تزال تؤثّر على آراء العامّة. لم يعد هناك من مجال لمناقشة ما أسمته دعاية جريدة «النهار» (العريقة في الطائفيّة واليمينيّة) بـ«الزمن الجميل». «الزمن الجميل» كان جميلاً طبعاً للزعماء الطائفيّين المرتهنين لإرادات الخارجيّة لحماية إقطاعاتهم، والذين مهّدوا الطريق من أجل إشعال الحرب في لبنان خدمة لمصالح خارجيّة وطائفيّة محليّة.

لم يكن لبنان ديموقراطيّاً في أي مرحلة من مراحل تاريخه المعاصر. كان في لبنان انتخابات لكن الانتخابات لا تصنع ديموقراطيّة وإلّا فإن الأنظمة البعثيّة تكون ديموقراطيّة وحتى أنظمة سلاطين الخليج باتت تسمح بانتخابات من دون أن يمسّ ذلك من طبيعة الحكم العائلي (أو الفردي في حالة السعوديّة الراهنة) هناك. كانت عبادة شخصيّة فظيعة ترافق فؤاد شهاب، في قيادة الجيش وفي الرئاسة، وفي التقاعد في قصره. وشهاب أشرف على دورتيْن انتخابتيْن في عهده، واحدة في ١٩٦٠ وأخرى في ١٩٦٤، وشاب هذه الانتخابات تزوير فظيع، خصوصاً في عام ١٩٦٤ عندما مُني كل خصومه بالخسارة بتدخّل من قبل «المكتب الثاني». وكان أتباع شهاب يسمّونه «المعلّم» (وكان شارل حلو يعترض بخجل – في المرحلة الثانية من عهده – على الوصف ويقول إن المسيح وحده هو المعلم). غابي لحّود يصفه بالقول: «نحن نرى في شهاب الكمال النسبي» (1). وكانت مهمّة غابي لحّود، وقد قام بها خير قيام، فرض عبادة شهاب الشخصيّة على الشعب اللبناني، لكنها عصيت على غالبيّة المسيحيّين بينما نجحت بين غالبيّة المسلمين لأن شهاب تصنّع – زيفاً – الولاء لعبد الناصر في الوقت الذي سخّر حكمه لخدمة أغراض المخططات الغربيّة. وعدم شعبيّة شهاب بين المسيحيّين زادت من اعتماد «المكتب الثاني» على حزب الكتائب كي يعوّض لشهاب عن ضعف تمثيله الطائفي. وكان شهاب طائفيّاً في الحكم بالرغم من قدرته على تجميع فريق متعدّد الطوائف. لو أن مناطق لبنان حظيت من التمويل والاهتمام ما لاقته كسروان لما كان هناك حاجة للإنماء المتوازن الذي لهجت بحمده الشهابيّة النظريّة.

ومن مفارقات تاريخ المكتب اللبناني الذي كرّس كل سنواته لمحاربة كميل شمعون ومحازبيه أن انطلاقته كانت على يد كميل شمعون نفسه. فقد أنشأ في أواخر عهده الجهاز المشترك الذي ضمّ الأمن العام و«المكتب الثاني» والأمن الداخلي ومنح الجهاز صلاحيّات تتشابك بين الأمن الداخلي والخارجي (2). لم يعد هناك حدود لتدخّل هذا الجهاز الذي سرعان ما أصبح عماد حكم فؤاد شهاب وأداته الضاربة. وتولّى شهاب السيطرة التامّة على «المكتب الثاني» في عام ١٩٥٢ عندما اختار أنطوان سعد رئيساً له.

 

 

لزّمت واشنطن معاركها ضد الشيوعيّة العربيّة لأجهزة المخابرات الموالية

 

ومسيرة صعود غابي لحّود في جهاز الاستخبارات تزامنت مع بناء فؤاد شهاب سلطة مزدوجة: كان النظام اللبناني في عهده — واستمرّ أيضاً في عهد شارل الحلو— مكوّناً من القشرة الرسميّة من نوّاب ووزراء وموظّفين، ومن المضمون الفاعل في الحكم المتمثّل بـ«المكتب الثاني». وكان شارل حلو في بداية عهده مواظباً في الولاء الكلّي لـ«المكتب الثاني» (خصوصاً وأن «المكتب الثاني» كان يفجّر عبوات ليليّة عندما يشعر أن الحلو يبتعد عنه أو أنه كان في وارد التخلّي عنه). وكان الحلو على تواصل منتظم مع الحاكم الأعلى فؤاد شهاب في أوّل عهده، كما أن الياس سركيس كان ممثّل شهاب في القصر الرئاسي إلى أن تولّى حاكميّة المصرف المركزي بعد أزمة «إنترا». لكن الحلو ابتعد عن «المكتب الثاني» بعد ١٩٦٧، عندما توقّف شهاب عن التواصل معه، وأصبح الحلو يعتمد على «الأمن العام» في عرقلة مشاريع الرؤية الشهابيّة وجهازها الأمني القوي. وانتخابات ١٩٦٨ كانت في جانب منها صداماً بين شارل حلو وبين «المكتب الثاني» وفاز فيها الأوّل معتمداً على دعم غربي ــ خليجي. وكان «المكتب الثاني» يدعم وبقوّة مرشحي النهج، فيما كان شارل حلو من خلال «الأمن العام» يدعم مرشحي الحلف الثلاثي الذين اكتسحوا كسروان وغيرها من المناطق.

كيف حكم «المكتب الثاني» في عهد لحود؟ كان يُقال إن لحّود لم يكن فظّاً مثل سلفه، أنطوان سعد، وأنه كان دمثاً. لكن الأزمة مع ريمون إدة لم يفجّرها إلا سلوك لحّود الفظ مع فيليب خير في عام ١٩٥٩. يومها، ارتكب مموّل حزب الكتلة الوطنيّة، والمتقدّم في السن، خطيئة نقل مقطع زجلي يسخر من فؤاد شهاب. فاستدعاه لحّود إلى مكتبه وصفعه باعترافه هو، لكن الرجل تعرّض للكم وركل وتضرّج بالدماء. رواية لحوّد أنه هو صفعه فقط، وأن زلمه أكملوا المهمّة عنه. والخلاف بين شهاب وإدة كان المُحرِّك الأساسي في سياسات شهاب الداخليّة. عمل «المكتب الثاني» على دعم حزب الكتائب نكاية بإدة، وحفظ حزب الكتائب الجميل بأن أمين الجميّل تطوّع للدفاع عن غابي لحّود عندما أحيل الأخير إلى المحاكمة في عهد سليمان فرنجيّة. كانت أساليب «المكتب الثاني» تعتمد على تجنيد زعران ومجرمي الأحياء واعتماد العنف في إرهاب الناس: كانت أساليب التشبيح – قبل أن تسري الكلمة في وصف مخابرات النظام السوري – هي السائدة في إرهاب الساسة والإعلاميّين ورجال الأعمال على حدّ سواء. قام زعران «المكتب الثاني» في عهد لحّود بطعن ميشال أبو جودة في وجهه بالموسى، وطعن النائب نسيم مجدلاني في وجهه أيضاً (أذكر وأنا صغير آثار الندبتيْن البارزتيْن العميقتيْن على وجهيْ الرجليْن عندما رأيتُهما للمرّة الأولى، الأوّل في فندق «شبرد» في القاهرة والثاني في مكتب والدي في بيروت). وكلمة «دكتلو» (أي الآلة الكاتبة) أُطلقت على عمل «المكتب» لأنه كان يرسل ورقة تعليمات وأخبار للصحف كي تنشرها كما هي. والطريف أن «المكتب الثاني» كان يختبئ خلف ذريعة حريّة الصحافة في لبنان عندما كان النظام السوري يعترض على ما لا يروقه في الصحافة اللبنانيّة (والتي كانت تعامل الأنظمة العربيّة بمعيار التقرّب من الأقرب إلى الدول الغربيّة).

وكان «المكتب الثاني» يسيطر على السياسيّين من خلال الابتزاز والرشوة والخوّات والمعلومات والدعم السياسي والثواب والعقاب. وكان رجال الأعمال يتعاملون معه بخوف شديد لأن كان يستطيع أن يرفع من شأن مَن يريد وأن يسجن مَن يريد في حال تخلّف عن الدفع. واعترف لحّود أن «المكتب الثاني» تحرّى عن ثروة يوسف بيدس لكنه نفى أن يكون لمكتبه ضلع في الأزمة (كأن كان هناك في البلد ما يخفى على المكتب).

أما إنجازات «المكتب الثاني» فلم تتعدَّ المباهاة باعتقال «متسلّلين فلسطينيّين» على الحدود مع فلسطين المحتلّة. وكانت مهمّة المكتب منذ البداية واضحة في التصدّي لـ«خطر» المقاومة الفلسطينيّة في لبنان، قبل أن تنطلق مقاومة (مِن أوّل أعمال أنطوان سعد بعد أن تسلّم رئاسة «المكتب الثاني» كان إنشاء فرع خاص بـ«اللاجئين الفلسطينيّين»). زرع المكتب زعرانه في كل المخيّمات الفلسطينيّة وفرض فيها منعاً للتجوال. وكان زعران المكتب يشتهرون بقساوتهم مع المدنيّين وبالتلصّص على النسوة في أثواب النوم في غرف نومهم ولم يكن بمستطاع آبائهم أو أزواجهم الاعتراض. وكان نظام فؤاد شهاب صارماً في عقيدته العسكريّة في مهادنة إسرائيل وفي منع أي تحرّك سياسي أو عسكري ضد العدوّ من لبنان. وقد حدث خلاف في اليوم الأوّل من حرب ١٩٦٧ إذ إن قائد الجيش، إميل بستاني، الطامح بالرئاسة، ارتأى أن يشارك لبنان في القصف المدفعي ضد العدوّ خصوصاً أن الأخبار كانت في الساعات الأولى تتحدّث عن انهيار كامل لجيش العدوّ. لكن «المكتب الثاني» باعتراف لحّود، رفض ذلك بشدّة محافظاً على عقيدة فؤاد شهاب التي اقتضت الكذب على الجامعة العربيّة وتنصّل لبنان من التزامات كان قد وقّعها بمساندة الجيوش العربيّة في الحرب ضد إسرائيل. وفي كل مواجهة مع إسرائيل، كان جيش فؤاد شهاب يرسل التطمينات إلى العدوّ.

 

 

لم يكن لبنان ديموقراطيّاً في أيِّ مرحلة من مراحل تاريخه المعاصر

 

وقد تفرّغ «المكتب الثاني» لمكافحة الشيوعيّة، ولم يكن تفرّغ أجهزة الأمن اللبنانيّة لمكافحة الشيوعيّة (كما اليوم لمكافحة ما تسميّه أميركا وإسرائيل بـ«الإرهاب») مجانيّاً. كانت المخابرات الأميركيّة تلزّم معاركها ضد الشيوعيّة العربيّة لأجهزة المخابرات العربيّة الموالية. ومن الملاحظ أن لحوّد يعترف أنه لاحق التنظيمات الشيوعيّة المعارضة وأعارها اهتمامه (3) في لبنان لكنه لم يذكر التنظيمات القوميّة العربيّة التي كانت معارضة وكان حجمها يماثل – إن لم يفُق – حجم التنظيمات الشيوعيّة لكنها لم تكن تشغل بال المُشغِّل الأميركي كما التنظيمات الشيوعيّة. ولم يخطر في بال «المكتب الثاني» مثلاً مكافحة التجسّس الإسرائيلي، وكان ذلك بأوامر من فؤاد شهاب نفسه (الذي كشفت الوثائق الأميركيّة الأخيرة عنه أنه كان يتبادل الرسائل مع العدوّ لا بل هو شجّع العدوّ على تهديد نظام شارل الحلو من أجل فرض قيود أشدّ على العمل الفدائي اللبناني). شهاب أوضح أوليّاته في التجسّس مبكّراً لأنطوان سعد قائلاً: لا أريد أخباراً من أيّ مكان… ولا حتى من اليهود. كلّ أخبار اليهود تأتيني من الملحقين العسكريّيْن الفرنسي والإنكليزي» (4). أي إن مؤسّسة العقيدة الوطنيّة للجيش اللبناني كان يعتمد في أخباره عن العدوّ على الحليفيْن الأقوى للعدوّ في ذلك الحين. وفي كل سنوات «المكتب الثاني»، لم يُلقَ على القبض إلّا على جاسوسة إسرائيليّة واحدة (شولا كوهين)، ولم يخطر في بال «المكتب الثاني» أن يحاول كشف شبكتها معها. لكن الحكومة ما لبثت أن سلّمتها سالمة آمنة إلى العدوّ الإسرائيلي.

والفضيحة الأكبر في عهد غابي لحّود تمثّلت في «طائرة الميراج». والقصّة الرسميّة هي أن ضابطاً لبنانيّاً سابقاً اتصل بالطيّار محمود مطر (الذي برز في الحرب الأهليّة في الفصيل الموالي للنظام السوري في الجيش اللبناني، المعروف باسم «جيش الطلائع» وكان قريباً من كامل الأسعد ومن كميل شمعون، وقد خطفه بشير الجميّل في عهد الياس سركيس) وعرضَ عليه سرقة طائرة «ميراج» لحساب المخابرات السوفياتيّة (وكان عليه أن يطير بها مسافات تفوق قدرة خزان الوقود في الطائرة). والرواية الرسميّة لا يصدّقها عقل: لماذا تثق المخابرات السوفياتيّة بطيّار لم تعرفه من قبل وتثق أنه سيقبل العرض من دون إبلاغ رؤسائه؟ والمبلغ الذي عُرض عليه يتراوح في الروايات بين نصف مليون دولار إلى ثلاثة ملايين إلا أن مطر يقول إنه مليون واحد. والرواية التي أرادها غابي لحّود ورفاقه أن تجري وفق سيناريو فيلم «جيمس بوند» تحوّلت على يد سامي الخطيب ورفاقه إلى سيناريو لفيلم «غوّار بوند»، إذ إن الخطيب ورفاقه في «المكتب» دخلوا إلى الشقّة، حيث كان الملحق العسكري السوفياتي مجتمعاً مع مطر لتسليمه شك كدفعة مقدّمة له، وباشروا في إطلاق النار بكل الاتجاهات ما أصاب النقيب عبّاس حمدان وعنصراً في الجيش والديبلوماسي السوفياتي. و«المكتب الثاني»، كعادته في التأثير على تغطية الصحف لأعماله، سرّب إلى الصحف صورة لمسدّس قال إنها للديبلوماسي السوفياتي الذي اتهمه المكتب بالمباشرة في إطلاق النار (لكن لحّود ورفاقه سرعان ما تخلّوا عن هذه الكذبة في روايتهم التاريخيّة). (حازم صاغيّة في روايته عن القصّة أقحم النظام المصري في الخطة، مع أن أحداً لم يتحدّث عن أي تورّط للنظام المصري، واختلق قصّة لا أساس لها من الصحّة عن خطة عبد الناصر لسرقة الطائرة) (5).

لكن هناك شكوك حول الرواية وحول خلفيّاتها. لحّود نفسه اشتبه في سنواته الأخيرة بضلوع إما «الموساد» أو «وكالة المخابرات الأميركيّة» في العمليّة لكنه لا يقرّ بضلوعها إلا في «التنفيذ» فقط (6)، ربما لتلافي الإحراج الذي أصاب مكتبه جراء الفوضى والارتباك الذي صاحب العمليّة. لكن عميل الـ«كي. جي. بي» السابق، فيكتور شيركاشن، يدحض الرواية اللبنانيّة الرسميّة ويقول إن المخابرات العسكريّة السوفياتيّة أعدّت خطة من هذا النوع لكن المخابرات الأميركيّة علمت بها مبكراً وهي التي أبلغت الحكومة اللبنانيّة بالأمر (7). وضلوع المخابرات الأميركيّة في العمليّة منطقي لأكثر من سبب. فمحمود مطر سُفِّر إلى الولايات المتحدة في دورة مباشرة بعد العمليّة. وبعد انتخاب فرنجيّة، وتصميمه على إقصاء ضبّاط «المكتب الثاني» عن السلطة، قررت الحكومة إرسال الضبّاط كملحقين عسكريّين في الخارج. ووقع الاختيار على لحّود كي يُرسل ملحقاً عسكريّاً في براغ. لكن غابي لحوّد يعترف أن مسؤول المخابرات الأميركيّة في بيروت زار قائد الجيش وطلب منه عدم إرسال لحوّد إلى براغ لأن الـ«كي. جي. بي» ستقتله هناك بسبب فضيحة «الميراج» (8). وهكذا تقرّر إرسال لحّود إلى مدريد حيث أنشأ شركة للاستيراد والتصدير، ويبدو أنه أقام علاقات طيّبة مع أمراء آل سعود أثناء زياراتهم الدوريّة إلى إسبانيا، إذ إن الملك فهد أسبغ عليه وساماً رفيعاً عندما زار المملكة عضواً في الوفد الرئاسي في عهد أمين الجميّل.

لم يختفِ غابي لحّود عن السياسة بعد رحيله إلى مدريد. ظلّ ينتظر عودة الشهابيّة فعادت مع إلياس سركيس الذي كان يمثّل الرمق الأخير منها. لكن حكمه ارتهن في أوّل سنتيْن للنظام السوري، ثم سلّم مقدّراته للجبهة اللبنانيّة وعمل بجهد من أجل وصول بشير الجميّل إلى الرئاسة مدعوماً باجتياح إسرائيلي، ابتهج له سركيس ورفاقه. كان لحّود يريد أن يصبح قائداً للجيش لكن الجبهة اللبنانيّة لم توافق عليه. أرادت ضابطاً شارك في الحرب الأهليّة فوقع الاختيار على فيكتور خوري، «بطل» معركة شكّا، وكان أنطوان لحد من الأسماء المطروحة يومها. بقي لحّود يعطي المشورة لسركيس ولعب دوراً في وقف حملة أمين الجميّل الرئاسيّة – ضد أخيه – في سنة ١٩٨٢. وعمل لحّود مستشاراً لأمين الجميّل وشارك في بعض رحلاته، لكنه لم يصبح قائداً للجيش بسبب تفضيل ضابط شارك في الحرب الأهليّة إلى جانب القوّات الانعزاليّة فوقع الاختيار على إبراهيم طنّوس.

طوى لحوّد بغيابه مرحلة غابرة من تاريخ لبنان المعاصر. لكن تسليط الضوء على سيرته يكشف ما لا يزال خافياً في سيرة الجمهوريّة اللبنانيّة أنها لم تكن يوماً ديموقراطيّة، لا شكليّاً ولا حقيقة في مرحلة ما قبل الحرب. كان فؤاد شهاب حاكماً بأمره ولم يكن يعرف الشعب الذي حكمه. كانت ثقافته – عن تصميم – فرنسيّة واعتبر ذلك فضيلة. كان يكتب خطبه باللغة الفرنسيّة وكان تقي الدين الصلح يترجمها له. ولم تكن النصيحة التي يتلقّاها ثمينة إذا لم تكن من فم خبير فرنسي. وكان واحدهم، كما روى فؤاد بطرس في مذكّراته، يحضر اجتماعات مجلس الوزراء ولم يكن الوزراء يجرؤون على معارضته. ولعلّ شهاب ارتاح إلى غابي لحّود لأنه كان مثله متزوّجاً من فرنسيّة. و«فصوص» الحكم التي تُنسب إلى شهاب لم تكن إلا تعميمات عنصريّة عن شعبه، ولم تكن موّجهة فقط إلى الزعماء «أكلة الجبنة»، الذي صنع هو بعضهم. وغابي لحّود كان الأداة العسكريّة الضاربة لحكم شهابي لا تزال الصحافة تصفه بـ«المدني». وهو كان حكماً مدنيّاً بالمعنى نفسه الذي أصبح فيه أشرف ريفي «مجتمعاً مدنيّاً».