قد يكون مبكّراً استخلاص نتيجة وحيدة من قمة القيصر- السلطان في اسطنبول: بوتين صاحب القرار الأول في سورية وجحيمها يحاول «شراء» حياد رجب طيب أردوغان إزاء معركة تصفية كل الفصائل السورية المعارضة في حلب، لكي يتمكّن النظام في دمشق من ادعاء انتصار، يمكّنه من تجديد سيناريو الحل الجاهز: طاولة الحوار أمامنا، وأمامكم (معارضي الداخل) صك «الوفاق» والاستسلام.
يغري بوتين الشريك الجديد في تركيا بجزرة تطبيع كامل، بكل ما يعنيه من تبادل مصالح اقتصادية فضلاً عن التعاون الأمني- الاستخباراتي، ورغبة أردوغان في مدماك روسي لأول مفاعل نووي في بلاده. لذلك دلالاته بالطبع في صراع النفوذ الإقليمي بين أنقرة وطهران، فيما القيصر يجمع أحجار الدومينو، مستغلاً التبلُّد الأميركي أمام «انتفاضة» بوتين على مرحلة ما بعد الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي.
على طاولة أحجار الدومينو، يمسك الثعلب الروسي بشراكة أمنية مع إسرائيل، وتحالف مصالح مع إيران، وأخيراً شراكة تجارة واستخبارات مع تركيا لـ «مكافحة الإرهاب» على رغم الفارق الكبير بين تعريفَيْ موسكو وأنقرة للإرهاب.
حتى الآن، لا يعاتِب السوريون الذين بالكاد يستطيعون إحصاء أرقام شهدائهم في «محرقة» حلب، حليفهم السلطان الذي يخاطب قاتلهم بكلمة «صديقي». وبين هؤلاء مَنْ يعتبر أن ما تفوّه به أردوغان في المؤتمر الصحافي مع ضيفه الروسي في اسطنبول، إنما يختصر حرب إبادة في حلب بمسألة الإغاثة التي لن تعطّل- إذا تأمّنت للمحاصرين- الخطة الروسية.
وطاولة الدومينو الرباعية، إن عنَتْ شيئاً فلن يكون سوى شطب القرار العربي، وإلحاح موسكو على تحييد الدور التركي في سورية حيث «تتدخّل واشنطن في شؤوننا»… والعبارة لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي حذّر إدارة الرئيس باراك أوباما من التفكير في قصف القواعد الجوية والمطارات السورية، لأن في ذلك «لعبة خطرة جداً».
ولم يتردّد الوزير في التلويح بردّ، لأن روسيا تدخّلت في سورية استجابة لطلب من «حكومتها الشرعية، ولدينا هناك أنظمة دفاع جوي في قاعدتين، لحماية أصولنا». والأصول لا تعني أموالاً ولا مصارف ولا منشآت نفطية، بل جنوداً وقاذفات وأنظمة صاروخية، للدفاع عن نظام الأسد، والأهم تسريع مشروع بوتين لنشر قواعد عسكرية في المنطقة العربية.
وإن كان بعضهم يذكر تجارب السوفيات في مصر جمال عبدالناصر، وفي عدن، فهل من المصادفة تسريب الصحافة الروسية نبأ السعي الى استئجار مواقع عسكرية في مصر، وهو ما نفته القاهرة؟ وهل مجرد مصادفة عزف حلفاء موسكو في طهران على وتر التصعيد ضد السعودية، واقتداء شركاء إيران الحوثيين بالنهج الإيراني ضد المملكة (استهداف أراضيها بصواريخ باليستية)، وبأسلوب استفزاز البحرية الأميركية (في البحر الأحمر)؟
كله تنويع على الوتر الروسي الذي انقلب 180 درجة، ليلتف على أعناق ضحايا المحرقة في سورية ويؤسس لإمبريالية يريدها بوتين انتقاماً لانهيار الاتحاد السوفياتي الذي كان مناصراً لقضايا العرب. ببساطة ينتقم الكرملين من الغرب «الشرير» باستباحة بؤر التوتر والحروب في المنطقة العربية، مدخلاً لإعادة التفاوض بعد شهور على مناطق النفوذ مع الإدارة الأميركية الجديدة. ولا يشذّ عن السيناريو ذاته، الطموح إلى تجديد القواعد «السوفياتية» التي أُغلِقت في فيتنام وكوبا.
يردّ الكرملين على «تسلُّل» الحلف الأطلسي إلى أوكرانيا والحديقة الخلفية للحدود الروسية، بعقيدة إحياء «الحق التاريخي لروسيا في أن تكون قوية»… في كل مكان، من البحر الأسود إلى البحر الأبيض، ومن قزوين إلى البحر الأحمر.
قبل أيام قليلة، تبنّى البرلمان الروسي طمع الكرملين بوجود عسكري دائم في سورية. تجاوزَ الدوما الحلم التوسُّعي لدى طهران بجعل البلد العربي المنكوب بأكثر من ثلاثمئة ألف قتيل وملايين المشرّدين «محافظة إيرانية»، رايتها «الحرس الثوري».
ولسان القيصر، بعدما رمّم طاولة الدومينو، أن الشراكة مع تركيا مرحلية، فتحييدها أولوية، مثل إلهائها بورقة «الإرهاب» الكردي… وأما إسرائيل وإيران، فالأولى مطمئنة إلى أمنها «اليهودي» بضمانة روسية، والثانية جندي على الأرض في معركة «روسيا العظمى» والأقوى، إلى أن تحين لحظة الحقيقة مع الغرب الحائر بأميركا الكسيحة.
موسكو، يردّد إعلامها أن «لا مفاوضات قبل حسم معركة حلب»، ولا يجد حرجاً، على هامش الاشتباك بـ «الفيتو» في مجلس الأمن، في وصف الوزير جون كيري بأنه «الكاوبوي الذي لفّ حبل مشنقته وسلّمه إلى روسيا».