عندما صرّح السيد حسن نصرالله أن طريق فلسطين تمر بدمشق والقلمون ودرعا والزبداني، لم يأت قولاً جديداً علينا. كلام عتيق، مُحفتر، بالٍ، ذكرنا بتصريحات أبو أياد «طريق فلسطين تمر بجونية» وذلك عندما كانت الثورة الفلسطينية قد غرقت في الحرب «اللبنانية» ووحولها. فلماذا لم تكن جونية أقرب من الجنوب في ادراك القدس المحتلة، وفلسطين كلها وكان الجنوب عندها في أيدي المقاومة الفلسطينية، واسرائيل تحتل أراضي من ثلاث دول عربية أيضاً؟ العدو يحتل كل هذه الأجزاء واختار أبو أياد وعددٌ من «أبوات» زمان «فتح لاند» جونية لتسهيل أمور هزيمة العدو. ويومها كانت «فلسطين» جزءاً من الحرب اللبنانية وزواريبها. ومدنها وأزقتها. بل كأن بيروت كانت عند بعضهم «تل أبيب» و»جونية» و»الجبل» القدس! وقولة أبو اياد يومها كانت تهديداً بتقسيم لبنان الذي كان أصلاً «مقسماً» كانتونات «مذهبية» والجيش كذلك والدولة والجغرافيا والشوارع والمنازل والمطابخ والمآكل والمشارب. كلام جوهره تقسيمي يخدم اسرائيل ويشوه المقاومة الفلسطينية، والوجود الفلسطيني في لبنان. وكان عندنا يومها «الحركة الوطنية» وشرائح من المسيحيين والمسلمين مؤيدين لها أو جزءاً منها، وعلى الأخص بعض الأحزاب اليسارية والشيوعية (السوفياتية) والقومية والعلمانية التي انخرطت في حرب تمذهبت وضلّت بوصلتها. ضلت «منظمة التحرير» وجهتها في لبنان، فمن الطبيعي ان تضل طريقها إلى فلسطين: كأنها لعبة البدائل التراجيدية وأقوال الجنون وفائض القوة وعبثيتها والتفريط ببلد كامل اسمه لبنان لمصلحة اسرائيل تحديداً وكان لهذه الأخيرة ان تنشرح وترتاح لمثل هذه الطرق المتباعدة والمستحيلة للوصول إليها. فالتحرير بات يحرر لبنان من وجوده ويؤصل الاحتلال الصهيوني. هنا لبنان بديل من فلسطين واليوم مع السيد حسن سوريا (ولبنان واليمن والعراق والبحرين بدائل من الجولان والقدس).. بولاء بالجملة!
انها لعبة النظام السوري أصلاً. بل اللعبة المشتركة بين كل القوى التي سعت إلى ابتكار بدائل من وجهتها القتالية. أي خربطة الأولويات التي كانت عناوين ناقصة للمعارك و»النضالات». ولكن اذا صحت مثل هذه المقولات من منطق أصحابها، فعليهم إذاً ان يعمّقوا لعبة البدائل: من رمي اسرائيل واليهود في البحر، إلى رمي الشعب اللبناني في مجاهل التهجير، والموت. الرئيس حافظ الأسد حوّل معركته لاسترداد الجولان إلى حرب معلنة على لبنان: من تحرير الجولان وهي جزء من هزيمته الكبرى إلى استثمار لبنان وهو جزء من الأمة العربية. فكأن لبنان بات بالنسبة إليه الارض المحتلة التي يجب تحريرها، والجولان الأرض المحررة التي يجب المحافظة على طمأنينة الجيش الاسرائيلي فيها. ولا فارق هنا بالنسبة إلى منظمة التحرير والنظام السوري في اعتبارهما ان الجيش اللبناني بات محتلاً لبنان على غرار الجيش الاسرائيلي الذي يحتل فلسطين. وعلى هذا الأساس بات من الواجب «القومي» تقسيمه لتسهل المعركة مع الجيش الاسرائيلي! وهكذا كان، هزمهم الجيش الصهيوني فعليهم اذاً الانتقام من الجيش اللبناني. هزمهم الكيان الصهيوني، فعليهم إذاً هزيمة الدولة اللبنانية: اسرائيل تحولت من كيان إلى دولة ولبنان تحول من دولة إلى كيانات: هناك في اسرائيل شرعية اللاشرعية، وفي لبنان لا شرعية الشرعية. نصف الشعب الفلسطيني والجولان مرتهن للاحتلال الصهيوني فلماذا لا يكون الشعب اللبناني مرتهناً لنا أو نتقاسمه مع الدولة العبرية. والنضال داخل الأراضي المحتلة شبه معدوم آنئذ فليكن. اذاً النضال داخل الأراضي اللبنانية وبالدم اللبناني وبالوجود اللبناني. هكذا رُسمت خطوط عديدة من خريطة فلسطين على مساحة لبنان وعلى جثث اللبنانيين ومدنهم وقراهم المدمرة.
[ جملة فراغية
بعد نحو أربعين عاماً تطُنُّ هذه الجملة «الفراغية» لأبو اياد في عقل السيد حسن نصرالله وفي ذاكرته، (فيا للتماهي العظيم)، فيصرخ وهو الذي عجز عن انقاذ الأسد والنظام نعم، «طريق فلسطين تمر بدمشق والزبداني والقلمون ودرعا… وحمص!» لكن تصريحه ناقص، اذ كان عليه أن يكمل تعداده الطرق العربية وغيرها إلى فلسطين: من اليمن (وحلفاؤه الحوثيون ممانعون ومقاومون!) فإلى البحرين، فإلى العراق، فأفغانستان، وجبال الهملايا (ربما غداً أو بعد غد) أي كل الطرق التي تنقطع فيها دون اسرائيل بل التي تُريح اسرائيل تماماً تماماً. وكان يمكن ربما أن يستذكر السيد حسن أكثر: فيضم 7 أيار وغزوة بيروت والجبل إلى تلك الطرق المقدسة التي تفتتح القدس والمقاومات المقدسة في فلسطين. وأكثر: كان يجب أن يثري خرائطه بأخرى سياسية: طريق فلسطين تمر بالمجلس النيابي ورئاسة الجمهورية والحكومة والكبتاغون واللحوم الفاسدة والأدوية المزورة وبتخفيف الحكم على ميشال سماحة وكذلك على العميل فايز كرم… لكي لا تنسى سلسلة الاغتيالات والتهديد والتخوين والتكفير التي أصابت عدداً من الرموز السياسية السيادية اللبنانية. بمعنى آخر كأن الكلمة المفقودة في خطاب السيد حسن نصرالله هي ايران بالذات. وبمناسبة توقيع الاتفاق النووي بينها وبين أوباما كان يمكن اضافة ان طريق فلسطين تمر بالنووي الإيراني.
[ طريق غير مذكورة
لكن هناك أيضاً طريق غير مذكورة في خطاب السيد حسن: لم يدرج الجولان مثلاً كطريق قريب من مقاتليه في سوريا إلى فلسطين. ولو! كل هذه الدروب والمتاهات والمسافات المتباعدة أقرب من نبضات القلوب إلى فلسطين… والجولان المحتل: «ليس من أولوياتنا» (كما صرح بعض من حزب الله) بل أكثر «اسرائيل الآن ليست من أولوياتنا». طبعاً يقصد فلسطين! فكيف تكون دمشق طريقاً إلى فلسطين، واسرائيل المحتلة ليست من أولويات الحزب ولا إيران ولا الممانعة ولا سرايا الدفاع ولا الحرس الثوري ولا فيلق القدس (اسم الفيلق «القدس» وهو فالقها).
(ويمكن ان نفهم (على طريقتنا؟) ان خرائط حزب الله المرسومة لم تُدرج غزة في خطوطها! عال لكن الغريب، ان السيد حسن عندما يُورد كل هذه المناطق السورية كطريق إلى تحرير فلسطين، نسي ان النظام السوري وعلى مدى أربعين عاماً كان يحكم سوريا من أقصاها إلى أقصاها. والسؤال: لماذا لم يحرر نظام الأسد الجولان وفلسطين (أو يحاول) من القلمون، ودرعا ودمشق وحلب وحمص والزبداني وكانت تحت سلطته. وكان الأسد يتباهى عندها بجيش من مليون جندي وبترسانة طائرات وغواصات وأسلحة ثقيلة؟ هل يعني السيد حسن ان تلكؤ النظام عن التحرير هو الذي جاء بإيران إلى سوريا (وبه) لتحل محله وهي الذي ابتكرت «المقاومة» وعززتها، وسلمتها الجنوب.
[ وراثة النظام السوري
ألم يُصبح قرار الحرب والسلم انطلاقاً من الجنوب في أيدي إيران وسوريا؟ إذاً ماذا كان يمنع النظام السوري و»الملالي» الطهورون الأنقياء من استرجاع (أو محاولة) استرجاع فلسطين؟ أتكون إيران مثلاً، هي التي تريد ضمناً إسقاط النظام السوري لتسهل عليها سلوك الطرق المؤدية إلى فلسطين؟ وإلاّ كيف يكون لحسن نصرالله أن يصرح بمثل هذه الأقوال ولمّا يزل النظام قائماً بالنسبة إليه؟ لكن هل يمكن أن نفهم أن إيران (كما نظام الأسد في لبنان) اختارت لعبة البدائل: احتلال سوريا بديلاً من محاربة إسرائيل، لتكون هي حامية الجيش الصهيوني في الجولان وأبعد منه. فينعم بالطمأنينة التي استلذها أيام النظام البعثي؟ وماذا يعني في المقابل قول عدد من القيادات الفارسية «أن سوريا ولاية من الولايات الإيرانية؟». ألا يعني أن خيار السيطرة على البلد العربي العريق (قلب العروبة النابض بأهله لا بنظامه!) للمخطط التوسعي الإيراني، وراء خطاب نصرالله أو أمامه؟ كل ذلك يوحي أن خطاب نصرالله وتصريحاته الأخيرة (يضاف إليها أقوال الملالي)، تعني إرادة إسقاط النظام، أم وراثته «حياً»، أو الاعتراف بسقوطه نهائياً؛ وإلاّ كيف يحق لزعيم تنظيم ميليشيا مسلح لبناني أن يعلن ما أعلنه في سوريا الأسد!؟ أهو كلام احتلالي لسوريا؟ أو إعلان ذوبان سوريا في بلاد فارس؟ لكن عندما «اقتيد» حزب الله إلى سوريا بأمر عمليات إيراني، لم يستشر أمينه العام أحداً، منتهكاً إرادة الشعب اللبناني وبيئته (فالكبار لا يسألون الصغار، ولا يسأل «الحاكمون» بأمرهم المحكومين. فهؤلاء مجرد أشياء، أو لوازم، أو قطعان، منزوعو العقول والكرامة. إنها لعبة 99,99 في المئة التي اعتمدها الاستبداديون لتحويل شعوبهم نكرات وأشباه مخلوقات وآنية فارغة تطن بصراخهم وأصواتهم ونرجسياتهم. يظن العبيد أحياناً أن كل من حولهم عبيد. وعبد القوي قوي. عبدٌ قوي. بقوة مستعارة. وحزب الله ليسوا أكثر من عبيد عند إيران، وعليهم إذن أن يساووا بينه وبين اللبنانيين والسوريين! وإذا كان الأطفال أسرار آبائهم، فالحزب اللبناني سرّ إيران الفارسي. وها هو استكمالاً لخطب الملالي يعلن، بدلاً من الشعب السوري، وحتى نظامه المتهاوي، وباسمه، أن فلسطين تمر من سوريا، فلماذا لا يكون لبنان كله الطريق «القادومية» الأقصر إلى فلسطين؟ فهو، أي الحزب، دشن طريق «فلسطين» من بيروت نفسها (كما دشن أبو أياد طريق جونيه)، فإلى اليمن، فالعراق، فالبحرين (أوتوستراد عربي طويل)، فإلى أوروبا نفسها (فحدود إيران تمتد على خرائط مطامحها ومصالحها)… وصولاً إلى النفط، والاتفاق النووي. ومن حق حزب الله أن يحتفل بهذا النصر الإسرائيلي الذي حققه «محور الشر» (في نظر الإيرانيين) إلى محور الإرهاب (في نظر الأميركيين).
[ رعب إسرائيل
اتفق إذاً «حاضن الإرهاب» مع «الشر المطلق»، وهذه مدعاة منطقية للاحتفال بالنصر، الذي، سلك طريقه «بسهولة» إلى فلسطين. والدليل أن إسرائيل «قلقة» منه، و»متوجسة» و»مرعوبة». فهي الدلائل «النفسية» والسياسية على أن الطريق إلى القدس وتدمير إسرائيل قد عُبّدت أخيراً مع الأميركان! وها هي إسرائيل ترتجف وترتعش وتصطك أسنانها ونواجذها رعباً! بل ولماذا لا تعتبر أن «أهازيج» حزب سليماني، وزجلياته، ونشوته بالانتصار، بتجسد أيضاً بالإفراج عن الأموال الإيرانية في البنوك العالمية (بدأ مجلس الأمن في اتخاذ التدابير)، باعتبار أن المال «الحلال» من إيران، جزء من مستلزمات تحرير القدس، وتعبيد الأوتوسترادات، وتأمين الأجواء والبحار إليها. فالمال سلاح خصوصاً بالنسبة إلى حزب الكبتاغون، وتبييض الأموال والأدوية المزورة واللحوم الفاسدة، إذاً اكتملت القوة! ورسمت الخرائط، وها هي الاستراتيجيات العسكرية (إيران كسوريا تمتلك ترسانة حربية قوية لا تعرضها في كل مناسبة، لترويع العالم، وإسرائل فقط بل لتعلن أن تحرير فلسطين اقرب إليها من نبضات قلبها!
لكن ماذا لو حاولنا تفسير الأمر بنقيضه، أو بمجازه؟ فإذا كانت إيران سبق أن أقامت حلفاً مع «الشيطان الأكبر» في العراق فسيطرت عليه بقرار أميركي، وسوريا (حماية مشتركة لنظام الأسد وفيلق الأسد وحزب الله والحرس الثوري)، وإذا كانت إيران على وشك الاستيلاء على اليمن، بتواطؤ أميركي، وإذا سبق أن تم تعاون بينهما في أفغانستان، (كما سبق أن تم تعاون بين أميركا والقاعدة في الحرب الباردة!)، وإذا كانت إيران عرقلت كل الاتفاقات والمقترحات والمؤتمرات التي اقترحت حلولاً للمسألة الفلسطينية، خدمة لإسرائيل التي ترفض كل الحلول، فلماذا لا نعتبر أن الربيع العربي، مثلاً، «متّن» التحالف بين أميركا وإسرائيل وإيران، (تحديداً من الاتفاق النووي)، وفي كل المستويات في يد إيران، أي في يد إسرائيل، لتكتمل المؤامرة على الشعب الفلسطيني وعروبته وقضيته، وعندها يمكن (ربما بحسب تمنيات الإسرائيليين والإيرانيين وأوباما) إغلاق ملف المقاومة الفلسطينية (كما حاولت إسرائيل وإيران والنظام السوري في لبنان، في الثمانينات)، وتقبض ثمن ذلك هيمنة على لبنان، وسوريا… والعراق… تماماً كما قبض النظام السوري ثمن تصفيته المقاومة الفلسطينية، هيمنته على لبنان، بترحيب إسرائيلي أميركي!
لكن كل هذه المقاربات ونقائضها، والتي تفرض على الشعوب العربية، تصبح في غير محلها! فإيران التي تمكنت من اجتياح الحدود العربية وسيادتها، أنتجت الربيع العربي، ثم وبعد استفحال جنونها، حركت النهوض العربي والإسلامي الواسع، بداية من اليمن (حيث تقهقر الحوثيون عملاء إيران والرئيس المخلوع)، وها هي الهزائم تطاردها، من لبنان (بعد هبة شعبية في ثورة الأرز)، إلى سوريا (حزب الله في الحضيض!)، فإلى اليمن (استرجعت عدن كلها)، فإلى العراق (الذي لن يستقر إذا بقي الاحتلال الفارسي مقيماً فيه)، فإلى البحرين… الهلال الكبير، أقصد لقاء الهلالين الإيراني والإسرائيلي، والهلال الثاني والثالث والرابع باتت بلا ضوء، ولا أجنحة! تتخبط في تقهقرها المعلن!