«هناك شيئان لا حدود لهما، الكون وغباء بعض البشر.. لكنني غير متأكد من حدود الكون» (آينشتاين)
عجيبة هذه التركيبة اللبنانية الممسوخة منذ الاستقلال، فعلى الرغم من أننا أمضينا سني طفولتنا، وبعضاً من شبابنا، ونحن نستمع إلى ترنيمات تشيد بتلك التركيبة التي سميناها الوفاق الوطني، وأصبحت محطة دائمة في الخطابات السياسية والمناسبات الوطنية وفي وسائل الإعلام، مع أن معظمنا يؤكد في مجالسه الخاصة أن الكلام عن الوفاق ما هو إلا مجرد نفاق يمارسه السياسيون لتغطية الفراغ في الفلسفة الوطنية التي تدعم وجود هذا البلد، وهو كما وصفه كمال الصليبي «بيت بمنازل كثيرة».
من مظاهر هذا النفاق ثلاثة أمثلة هي غيض من فيض:
– عندما يتعرقل تعيين تابع لزعيم ما في موقع ما، أو يفشل في الحصول على التزام مشروع ما، أو يتم تخطيه في تأليف حكومة أو مجلس بلدي أو حتى مجلس إدارة، يخرج الزعيم مباشرة ليحرض مناصريه وشارعه وطائفته حول موضوع اغتصاب حقوق الطائفة أو المدينة أو المنطقة وأحياناً العائلة، ولكن الشعار الدائم لذاك الزعيم هو الدفاع عن حقوق طائفته، وبالتالي التحريض على من «اغتصب» تلك الحقوق، أي الطوائف الأخرى، وفي معظم الأحيان يتم تحديد طائفة واحدة. أما في حال رضي الزعيم، فيعود ويحث مناصريه على نبذ الطائفية وعلى الوحدة الوطنية مؤكداً على ثبات وثيقة الوفاق الوطني، فيلعن الطائفية ومثيري الفتن.
– عندما يخرج سياسي أو ناشط اجتماعي أو صحافي من طائفة معينة ليتحدث عن المساواة بين الناس بغض النظر عن طوائفهم، أو يقوم فاعل خير بتوزيع مساعداته على محتاجين من غير طائفته، أو يستثمر رجل أعمال في منطقة من غير طائفته، فهنا يقع هذا التاعس الحظ بين مطرقة طائفته، وسندان الطائفة الأخرى.
فطائفته تتهمه بإهمالها والاهتمام بالطوائف الأخرى وترجمه بتهمة «العلمانية» وتنعته بالردة والتخلي عن أبناء جلدته. أما الطوائف الأخرى فتتهمه بالنفاق أو السعي لتغطية تعصبه بالكرم الزائد، أو أنه يريد أن «يحتل» أو «يجتاح» مناطق طوائف أخرى لمصلحة طائفته…
– أما البدعة المهزلة فهي حصرية حق هجاء أو انتقاد أو اتهام مرجعيات سياسية أو إدارية أو أمنية من طوائف معينة بأبناء طائفتها فقط، وإن حصل وخرق هذا العرف تاعس ما مهما بلغ من حسن سيرة ومراتب، فإنه يتحول إلى «مجرم طائفي داعشي يدنس الحرمات يستوجب شنقه، ولو صورياً«.
والكارثة الكبرى هي أن الفاسد أو المجرم أو الفاشل يتحول إلى بطل وقديس في نظر طائفته، لمجرد أن مواطناً من طائفة أخرى سولت له نفسه اتهامه، بغض النظر عن كون الاتهام صحيحاً أم خطأ.
كلام ميشال عون الأخير وتهديده قائد الجيش كان أخطر بكثير من ردود فعل انفعالية لمسؤولين بحق قائد الجيش فاستحقوا حبل المشنقة الرمزي لمجرد أنهم من طوائف أخرى غير طائفة القائد.
كذلك الحال بالنسبة للتحريض الطائفي، فقد قامت الدنيا ولم تقعد لكلام انفعالي قاله نائب واعتذر عنه لاحقاً بخصوص بعض المظاهر الدينية، في حين أن ميشال عون يمعن في سلسلة سابقة وحالية، وعلى الأرجح لاحقة من الخطابات، بالتحريض الفاضح والواضح ضد طائفة واحدة آملاً في ردود فعل من قادة أو مواطنين من هذه الطائفة، لتدخل البلد في دوامة المواجهة الطائفية، فيربح عون ويكسب جمهوراً وشعبوية، ولو على حساب البلد وعلى حساب طائفته.
لقد ادعى ميشال عون في يوم من الأيام بأنه علماني، وقد يكون صادقاً، فهو مؤمن بنفسه فقط، ولم يتورع ولم يعتذر حتى عن استباحة وتدنيس موقع البطريركية المارونية في أكثر من مناسبة. كان يومها يأمل بأن كل الطوائف ستكون معه ليحقق حلمه. اليوم تحوّل هو إلى زعيم طائفي، وأصبح غضبه «غضباً مقدساً»، لمجرد أن حلمه بزعامة عابرة للطوائف من خلال رئاسة الجمهورية سقط نهائياً.
الاتكال اليوم هو على صمود أبناء الطوائف التي يتهمها عون في وجه الاستدراج ليردوا على الإسفاف الطائفي بالتمسك بالمنطق الوطني ليحترق المحرّض بغيظه.
() عضو المكتب السياسي في تيار «المستقبل»