مقارنةً بمطلع صيف السنة الماضية، يبدو الوضع الداخلي الآن راكداً أكثر منه ملتهباً. لا شيء مضموناً مع ذلك، في ظل استفحال الشغور الرئاسي مدة تلو مدّة، والاقتراب من انتهاء مدة التمديد الثاني للمجلس النيابي الحالي، أيضاً من دون الاتفاق على قانون انتخاب، وتوسع دائرة الالتزام، خطابياً على الأقل، بأنه لا مجال للتمديد مرة ثالثة للمجلس الحالي.
الشغور باستطالته يكشف طبعاً أزمة هيكلية وشاملة، كما يوضح درجة تبعية السياسة اللبنانية عموماً، والموضوع الرئاسي فيها خصوصاً، للاشرافات والاجازات الاقليمية، وبالأخص بالنسبة للفريق التابع لايران، المعطل التئام الهيئة الناخبة للقيام بواجبها الدستوري، والذي يحاول القاء جريرة التعطيل على سواه، ما يفرض على الدوام التشديد واعادة التشديد على ماهية تعطيل انتخابات رئاسة جمهورية: التعطيل ليس في تفضيل مرشح على آخر، وانما في عصيان النص الدستوري الصريح الذي يعلن المجلس النيابي في حالة انعقاد دائمة حتى انتخاب رئيس.
لا شيء مضموناً البتة في هذه المرحلة، لكن العين الديبلوماسية والدولية بدأت تعي أكثر فأكثر أن الموضوع الرئاسي اللبناني صار خارجاً كلياً عن المألوف حتى بالنسبة الى بلد محكوم بالتبعية والهشاشة والانقسام وعدم مراعاة المواقيت الدستورية. ليس هناك مبادرة جاهزة بعد بهدف الخروج من دائرة الجمود في هذا الملف، لكن هناك استطلاعاً متنامياً لهذا الملف، واستدراكاً سياسياً بأنه ملف لا يمكن طيه أو تأجيله دولياً بحجة ملفات اخرى اكثر اتساقاً مع الازمة السورية. الشغور الرئاسي يوفر شبكة حمائية أساسية لمنظومة التدخل الخميني – اللبناني في الحرب السورية. وراء الشغور اذاً طرف بعينه، وهو الطرف المشارك بالحرب السورية. لا يمكن بالتالي استمرار التطرق للقضايا المتصلة مباشرة بهذه الحرب واستبعاد تناول موضوع الشغور. سابقاً كان التشديد على ان اي تقدم في الاتجاه نحو التسوية في سوريا يمكنه ان يعوّم حظوظ الخروج من الشغور الرئاسي لبنانياً. الآن يجري التنبه للمقلب الثاني من المعادلة: ايجاد مقاربة دولية لموضوع الشغور الرئاسي عندنا هو احد المداخل الاساسية للتمهيد للتسوية السورية بجدية اكبر.
لا تزال هذه المقاربة الدولية في طورها البدائي. وهذا يستدعي اولاً اجادة نقل الصورة اللبنانية على ما هي: التعطيل هو فعل محدد، تطيير جلسات الانتخاب، وليس سبب التعطيل تبني هذا المرشح او ذاك بحد ذاته. الطرف القائم بالتعطيل لا يفعل ذلك لاجل مرشح معين ايضاً، وانما يرغب الى حد كبير بالتعطيل لذاته، كونه لا يجد مصلحة في انتخاب رئيس، اياً كان، وحتى اشعار آخر، او حتى ضغط مناسب (او وضعية حسابية مناسبة) قادر على دفعه باتجاه تسهيل عملية الفوز برئيس جديد للبلد.
لا بد من التمييز اذاً بين مستويين: التعطيل بما هو عصيان على الدستور وهذا ما يقوده «حزب الله»، و»الكربجة السياسية» بما هي انسداد سياسي يقع به الجميع، نتيجة عدم التمكن من تحقيق اجماع على مرشح رئاسي جامع ينسحب امامه المرشحون الآخرون، سواء عندما كانت المبارزة بين ترشيحَي عون وجعجع، او عندما تحولت الى ترشيحَي عون وفرنجية. طبعاً، عندما يكون الوضع طبيعياً، ينبغي افتراض التنافس وليس الاجماع كقاعدة للحياة السياسية السليمة، لكن في ظل تمادي الشغور، فان عدم تحقيق الاجماع على شخصية محورية يصبح «كربجة» في واقع الحال. يبقى ان هذه الكربجة هي نتيجة طبيعية لعدم قناعة فلان بفلان، ولا يمكن ان تحمل وزر التعطيل. التعطيل قائم في مكان محدد: تطيير الجلسات. لو كان ممكناً تأمين جلسة انتخابية لانحلت الكربجة من تلقائها. التسويق لمنطق ان الكربجة تحل في السياسة اولاً، ثم تتأمن الجلسة الانتخابية العتيدة هو منطق التمادي في التعطيل لا اكثر ولا اقل.
الاهتمام الخارجي بالملف الرئاسي ليس اختيارياً. انه يصبح اضطرارياً اكثر فاكثر، في الوقت نفسه الذي تتعقد فيه الامور اكثر في المنطقة، وينعكس هذا سلبياً على لبنان بطبيعة الحال. لا يعني الاهتمام الدولي ان ثمة عروض تسوية شاملة يمكن انتظارها في الامد المنظور، ولا ان ثمة كلمة سر لتسوية موضعية تتعلق تحديدا بملء الشغور يمكن التفاؤل بها. تحميل المسؤولية بشكل واضح للطرف المسؤول عن الشغور هو المعيار المباشر والاوضح لتفعيل الاهتمام الخارجي والحركة الديبلوماسية والدولية باتجاه لبنان، لا سيما انه في الاساس تحميل للمسؤولية لفريق يعتبر نفسه عضوياً في منظومة اقليمية تقودها ايران، ويحارب في سوريا. معيار الفاعلية، و»البصيرة الدولية» هنا: السماح للبنانيين بانتخاب رئيس جديد وليس تأهيلهم للتوافق في ما بينهم على رئيس جديد. معيار الشطط هو التفكير بالمقلوب بأنه ينبغي تأهيل اللبنانيين للتوافق، وهذه تماماً لعبة المعطّلين.