كانت ريتا تُنظّف زجاجَ منزلها في المنصورية، عندما وقع نظرها على موقف سيارتها، لتُفاجَأ بأنّ سيارتها التويوتا «راف فور» غير موجودة… لوهلة خالت أنّ ذاكرتها تخونها وأنها قد تكون ركنته في مكانٍ آخر، «لكن لا، لِمَ أفعلُ ذلك؟»، قالتها ريتا والقلق ينتابها. فما كان منها إلّا أن حملت مفاتيح السيارة وهروَلت كالمجنونة إلى مدخل المبنى، لتصطدم بالحقيقة المُرَّة: «سرقوا سيّارتي!».
لم تكد تمرّ ساعة على الحادثة عجزت خلالها ريتا عن استيعاب الصدمة، حتى اتصل بها أحدهم على هاتفها الخلوي من رقم مكشوف، لإبلاغها أنّ «السيارة بحوزتنا وقد وصلت للتوّ الى بريتال، ولا سبيل لاسترجاعها، إلّا لقاء فدية مالية مقدارها خمسة آلاف دولار أميركي».وقُطع الخط.
«لم أتجاوب مع العرض»، تخبر ريتا، «نظراً إلى معرفتي المسبَقة بالاحتمالات التي قد أتعرّض لها، إذا تفاوضت معهم أو قابلتهم، من بينها القتل».
أجهشت ريتا بالبكاء. فهي لم تخل يوماً أنها ستكون ضحية العصابات. ولأنْ لا خيار أمامها سوى الإبلاغ عن سرقة السيارة، توجّهت إلى أقرب مخفر للدرك في المنطقة، حيث روت قصتها بالتفاصيل، وتمّ إعداد المحضر.
التفاوض مع العصابة
أسبوعٌ كامل مرّ من دون أن يحرّك رجال الدرك ساكناً، ليصبح حلم ريتا باستعادة سيارتها «على الوعد يا كمّون»، وذلك على رغم أنّ الجهة المسؤولة عن السرقة أشهر من أن تُعرَّف، فضلاً عن توافر رقم الهاتف إذ كانت العصابة على تواصل مستمرّ مع ريتا.
ولأنّ صبرها نفذ بعدما فقدت الأمل باسترجاع السيارة عبر الجهات المختصة، وبعدما فاوضت المتحدث باسم العصابة، ونجحت في خفض الكلفة الى 3500 دولار، استدانت ريتا المبلغ من الأقارب والأصدقاء، وقرّرت المخاطرة بحياتها والتوجّه الى بريتال، برفقة شخصٍ من بلدة محاذية، تعرّفت إليه عبر أحد أصدقائها الذي أكد لها أنّ هذا الشخص على تواصل مستمرّ مع سارقي السيارة، وسيلعب دور الوسيط بهدف إتمام صفقة التبادل، استجابةً لشروط العصابة التي فرضت عليها التكتّم عن عزمها على دفع الفدية.
بخوفٍ وقلق انطلقت ريتا في رحلتها مجهولة المصير. عند مدخل بريتال ورشة صغيرة لـ»ترقيع» الحفر تستقبل زوار البلدة. على أعمدة الكهرباء الموزّعة على الطرق، تُرفع صور عشرات المقاومين الذين سقطوا في بلدات الجنوب في عمليات المقاومة ضدّ الإحتلال الاسرائيلي.
غالبية منازل البلدة متواضعة، ولكن ليس كلّها، فهناك بيوت وفيلات فخمة ذات الهندسة الجميلة والملفتة. المحال والمؤسسات التجارية تعمل طبيعياً مثل سائر بلدات القضاء. لا تشعر بحركة كثيفة في بريتال ما عدا مجموعات من الفتيان والشباب تتجمّع أمام الدكاكين وبعض المحال والمطاعم في جوار النادي الحسيني وضرائح المقبرة الموجودة في وسط البلدة.
هل هذه سيارتي؟
وتخبر ريتا: «الطريق التي سلكناها للوصول الى مكان التبادل، ضيقة ووعرة وغير آهلة بالسكان، ما ضاعف شعوري بالرعب. وفي نهاية المطاف، وصلنا الى ما يشبه «التخشيبة»، حيث كان ينتظرنا رجلان داخل سيارة جيب تويوتا «راف فور» تشبه سيارتي من حيث الموديل واللون، لكنّها لم تكن تشبهها إطلاقاً من حيث المظهر.
وكم ذُهلت عندما أكد لي الرجل الذي يرافقني أنّ هذا الجيب لي»، لافتة الى أنّه «أصبح «مُفَيّماً» (زجاجه أسود) من كلّ الجهات، واستُبدلت دواليبه الجديدة بدواليب مستعمَلة ولكن لها «جنوطة»، فضلاً عن أنّه كان متّسِخاً جداً بالوحول».
وتضيف: «ترجّل الرجلان من السيارة وصافحانا وبدا أنّهما يعرفان الرجل الذي يصطحبني، إلّا أنّ أكثر ما لفتني كان أنّه لم يدفع لهما المبلغ كاملاً، بل اقتطع منه حصته من دون إعلامي بذلك، وكأنّ اتفاقاً صيغ بين الجانبين، وهكذا سلّماه مفتاح الجيب ثم توجّه أحدهم إليّ بالقول: «نحذّرك من إخبار القوى الأمنية بأنك التقيتنا وأنك دفعت فدية، فما حصل هنا يبقى هنا». وعلى الفور، استلمتُ ما تبقّى من الجيب بعدما جرّدوه من معظم مقتنياته الأساسية، وغادرت بريتال «إلى غير رجعة انشالله».
وتؤكد ريتا أنها لم تخبر القوى الأمنية بتفصيل ما حصل، مكتفية بالقول إنها وجدتها مركونة في منطقة معينة، «واللافت الاتصالات المتعددة التي تلقيتُها من المخفر لسؤالي عما اذا كنتُ قد دفعتُ فدية مقابل استعادة الجيب، وفي كلّ مرة كنت أجدِّد النفي، ولكنني صراحة لم أفهم إصرارهم هذا، خصوصاً أنهم لم يقوموا بواجبهم حيال هذه العصابة التي يعرفون مكانها».
… مخبرون
يؤكد مصدر أمني، أنّه «تبيّن لنا، من خلال أخبار السرقات التي تنتشر يومياً وجود «مخبرين» لكلّ عصابة في منطقة معيّنة، يبحثون عن نوع السيارة التي يحتاجها رؤساء هذه العصابات، ويؤمّنون طلبهم بعد مراقبة السيارات يومياً.
وينفّذ هذه العمليات شباب يافعون مقابل المخدرات أو مبالغ زهيدة»، مشيراً الى أنّ «تسويق السيارات المسروقة يتمّ إما عبر التفاوض لإعادتها إلى أصحابها مقابل مبلغ من المال، وإما بيعها على شكل «قطع»، أو تصديرها إلى الخارج، فيما تُسرق الآليات القديمة، من سيارات وحافلات، لاستخدامها في جرائم أو عمليات سرقة أخرى»، كاشفاً أنّ «معظم عمليات السرقة يتمّ في مناطق جبل لبنان، بينما ترسل معظم السيارات إلى مناطق بقاعية أو تصدّر إلى خارج الحدود».
صحيحٌ أنّ «بريتال» مشهورة بكونها معقل سارقي السيارات، وعلى رغم أنه يُسجل بين حين وآخر تنفيذ مداهمات أمنية في المنطقة تنجح في مصادرة عدد من السيارات المسروقة، «إلّا أنّ واقع القضية يأخذ أبعاداً سياسية وأمنية وعشائرية»، يقول المصدر الأمني: «الأمر الذي يجعل القوى الأمنية غير قادرة على السيطرة على الوضع أو الحدّ من هذه الظاهرة نهائياً»، موضحاً أنّ «رؤوس العصابات معروفة لدينا بالأسماء وعددها لا يتجاوز 100 شخص، لكنّ المشكلة تتمثل في توفير جهات سياسية وحزبية في المنطقة، الحماية المطلوبة لها. فيما تحوّلت مهمة القوى الأمنية، للأسف، إلى الفصل بين هذه العشيرة أو تلك».
ولأنّ سرقة السيارات أصبحت من الأخبار الأمنية اليومية التي اعتاد عليها اللبناني، باتت الحِيل التي يلجأ إليها، سيدة الموقف، وما يرافقها من احتياطات تبعد إلى حدٍّ ما شبح السرقة عن السيارات، وإن كان ذلك لا يعني نجاح الخطط أحياناً كثيرة.
فليس غريباً مثلاً أن يهمل اللبناني سيارته عن سابق تخطيط، تاركاً إياها متسخة، لكي لا تجذب عين السارقين، أو أن يمتنع عن شراء سيارة فخمة وإن كان يمتلك ثمنها، خوفاً من أن تلحق بمثيلاتها.