قبل انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، راهَن كثيرون على أنّ شركة «توتال» الفرنسية، التي شاركت مباشرة في مفاوضات الترسيم بين لبنان وإسرائيل، ستُباشر عمليات الاستكشاف والتنقيب في حقل «قانا» بعد أسابيع قليلة من التوقيع. واعتبر هؤلاء أن المبادرة ستشكِّل صفّارة انطلاق لشفاءِ لبنان. فهل يعني تأخُّر «توتال» و»غموضُها» أن البلد لن يغادر جهنم في المدى المنظور؟
إذا سَلك ملف استكشاف الغاز والتنقيب ثم الاستخراج طريقه إلى التنفيذ، وأصبح لبنان بلداً نفطياً، فسيكون ذلك إشارة قوية إلى أنّ الحظر المفروض على لبنان قد زال أو بدأ بالانحسار.
يعني ذلك أنّ القوى الإقليمية والدولية المتصارعة على رقعة لبنان والشرق الأوسط توصلت إلى تَوافق الحدّ الأدنى، حول نقطة معينة على الأقل، وأن لبنان حصل على تغطية إقليمية – دولية بالحدّ الأدنى، تسمح بإبرام تسويات جديدة في الداخل، على غرار التسويات الكثيرة التي تمّ التوصل إليها على مدى نصف قرن مضى.
ولذلك، هناك ترقّب ساخن للموعد الذي ستطلق فيه شركة «توتال» ورشتها الموعودة. ومن المثير أن تكون الإشارة المنتظرة من شركة نفط فرنسية أبرز علامةٍ لعودة لبنان إلى الحياة.
لقد اضطلعت «توتال» بدور حيوي لتسهيل الاتفاق على ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل. وأطلق وفدُها الزائر آنذاك وعداً أمام رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير الطاقة وليد فياض، بالمباشرة في التنقيب عن الغاز في المياه اللبنانية «فور» وضع اللمسات النهائية على الاتفاق.
وللتذكير، فإنّ الإسرائيليين باشروا العمل في حقل «كاريش» عند اكتمال عناصر الاتفاق، ولم ينتظروا التوقيع. وقد أبلغوا الجانب اللبناني بذلك، فأبدى تفهُّمَه ما دام الاتفاق بات منجزاً عملياً. ولذلك، كان ممكناً أن تباشر «توتال» أيضاً خطواتها من الجهة اللبنانية، على الأقل بتحديد مواعيد الخطوات التنفيذية بدقّة.
لكن الشركة بَدت راغبة آنذاك في جسّ نبض الجانب الإسرائيلي واستيضاحه قواعد الاتفاق معه على حصة الـ17 % من الأرباح التي يُفترض أن تعود إليها، وفق نصّ اتفاق الترسيم. وبَدا لكثيرين أن أي سوء نيَّة أو رغبة إسرائيلية في العرقلة – وهذا أمر منتظر حتماً- يمكن أن يعوق حراك «توتال» في الجانب اللبناني.
هذا الأمر كان يدركه الجانب اللبناني جيداً. ولذلك، ألحّ رئيس الجمهورية ميشال عون على أن تبدأ الشركة عملها فوراً، لتعويض الوقت الضائع في البلوك 9، وللخروج من «النكسة» التي تعرَّض لها لبنان- ووزير الطاقة السابق جبران باسيل – في أول تجربة استكشاف، في البلوك 4.
لم «يتورَّط» وفد الشركة، خلال لقائه عون في بعبدا، في تحديد موعد واضح لإطلاق الورشة على الضفة اللبنانية. واكتفى بإطلاق وعد جديد باستقدام منصة الحفر «ابتداءً من العام 2023»، مع ما تعنيه هذه العبارة من غموض في أفضل الأحوال.
واليوم، عاد لبنان إلى التحرُّك محاولاً دفع الشركة إلى الوفاء بالتزاماتها في أقرب وقت ممكن، خصوصاً أن لبنان في حاجة ماسّة إلى المداخيل المُحتمل تحصيلها في قطاع الغاز. فصحيح أن البدء في استخراج الغاز من البلوك 9 واستثماره يستلزمان 4 سنوات على الأقل، إلا أن عملية الاستكشاف الأولية- إذا أظهرت وجود كميات من الغاز مناسبة تجارياً- من شأنها أن تبدّل النظرة الدولية إلى لبنان، وتعيد الثقة في امتلاك لبنان مقومات النهوض.
ولهذه الغاية، كُلِّف سفير لبنان في فرنسا رامي عدوان لقاء رئيس مجلس الإدارة في الشركة باتريك بيوانيه، واستجلاء خلفيات التأخير. فكان ردُّه «عمومياً». فقد أطلق وعداً جديداً بالإسراع في التنقيب. لكنه لم يحدِّد أي موعد. وهذا يعني عملياً أن لا أفق واضحاً للبنان فيما يتعلق بموعد استثمار موارده النفطية، وأن لا إشارات لتحريك الشركة ورشتها في لبنان عملانياً.
وهنا، ثمة مَن يعتقد أن المسألة سياسية في العمق. فلبنان لن يُمنَح القدرة على استخراج الغاز واستثماره إلا عندما تكون قد نضجت اللحظة لخروجه من الأزمة والدخول في التسويات الكبرى، أي ضمن سلَّة شروط ستفرضها القوى الدولية والإقليمية التي تتصارع أو تتوافق على أرضه. ويقول هؤلاء إن جميع الذين وقّعوا الاتفاق يعرفون هذا الأمر.
ولكن، هناك مَن يسأل: إذاً، لماذا سارعت القوى المُمسكة بالسلطة إلى إبرام اتفاق الترسيم وصوَّرته انتصاراً، ما دامت تدرك أنه لن يمنح لبنان القدرة على استثمار موارده من الغاز؟
يقول بعض العارفين: في الواقع، مورِست على هذه القوى ضغوط قوية للسير بالاتفاق، ووصلتهم رسائل أميركية وأوروبية مفادها: بأيّ ثمن نطلب منكم أن تفتحوا الطريق لتصدير النفط من إسرائيل إلى أوروبا، لأن الحاجة هناك ماسّة إلى الغاز لتعويض النقص الناتج عن الحظر الروسي. ونريدكم أن تفعلوا ذلك من دون أي تأخير.
ويضيف هؤلاء: لم يكن أحد في لبنان قادراً على رفض هذا الطلب أو تجاهله، خصوصاً في ظل وضعية الحصار والانهيار التي يعيشها. وأما «حزب الله» فقد رأى أن التجاوب مع المطلب الدولي سيتيح له هامشاً إضافياً من الوقت وأوراق قوة يستثمرها سياسياً في الداخل اللبناني والعديد من المواقع الإقليمية والدولية.
ولذلك، وافق الجميع على الترسيم، وهم يطمحون إلى البقية التي لم تأتِ بعد. والانتظار سيطول على ما يبدو، إذ لا يمكن فصل ملف النفط والغاز عن الملف اللبناني برمّته. وسيكون الأسوأ أن يتجه لبنان إلى المزيد من التجاذب في العام 2023، وأن يصطدم بالأميركيين والفرنسيين والعرب في آن معاً، في ظل أكثر الحكومات تطرفاً في تاريخ إسرائيل.