لبنان لا يحتاج النفط، لديه دماغ شعبه (ما عدا البعض وفهمكن كفاية) وطبيعته.
دخل لبنان مرحلة التنقيب عن الغاز، كما يسعى المسؤولون لاستكمال شروط البنك الدولي في مسعى للاستدانة، ولكن يبقى السؤال: «من يضمن انّ اي موارد جديدة وأي دين جديد لن يتمّ نهبه كما حصل سابقاً ؟». وهناك تقرير جديد لشرطة «الفاريز اند مارسال» يشير إلى أنّه خلال الفترة الممتدة من العام 2015 وحتى العام 2020 انتقلت وضعية مصرف لبنان المركزي من فائض في العملات الأجنبية مقداره 10.7 تريليون ليرة لبنانية (7.2 مليارات دولار أميركي) إلى عجز في هذه العملات مقداره 76.4 تريليون ليرة لبنانية (50.7 مليار دولار أميركي). أي تبديد مصرف لبنان 87,1 تريليون ليرة لبنانية (57,9 مليار دولار اميركي) بالإضافة الى الاموال التي نُهبت قبل هذه الفترة الزمنية مثل الـ11 مليار دولار التي تمّ إنفاقها بين 2006 و2008 من دون غطاء قانوني، وغيرها كثير واللائحة تطول. بالنسبة الينا لبنان قادر على ان يزدهر من دون بترول او استدانة، فلديه ما هو اهم من البترول، لديه دماغ شعبه (ما عدا البعض وفهمكن كفاية) وطبيعته. انّ مشكلة لبنان هي الفساد والهدر وسوء الادارة، لذلك لا قيمة لأي مداخيل جديدة من اي مصدر قبل تحقيق الشفافية، فمن دون الشفافية ستصبح المداخيل في جيوب البعض.
نعيد ونكرّر الشفافية المطلقة هي التي تجعل من كل قرش يدخل ويخرج من موازنة الدولة موجوداً على الانترنت على طريقة الحسابات المكشوفة، من دون الحاجة إلى طلب اي معلومة حولها، ان تكون حسابات مكشوفة يستطيع اي كان الاطلاع عليها. ولكن يبدو انّ الطبقة السياسية والاعلام وغيرهما وعلى الرغم من انّ بعضهم ينادي بالشفافية، فهم لا يريدونها فعلاً. والسؤال يجب ان يُطرح عليهم: لماذا ؟
في لبنان اليوم، لا نفهم ان يكون اي شيء سراً، لا توجد اسرار نووية، على السبيل المثال إذا تمّ تسليح الجيش عبر الشراء او هبات، من يزوّد الجيش يملك التفاصيل ويتمّ إيصال المعلومات لمن يهمّهم الامر من الدول والأفراد، فليس هناك سرّية في الموضوع، وبالتالي لا داعي لإضفاء صفة السرّية على اي امر تحت اي ذريعة، فلا بدّ من ان نستنتج انّ السرّية في اي شيء هدفها تغطية السرقة.
ما المانع من ان تُظهر الحكومات مصاريفها وإنفاقها، إذا ارادت ان تُكافئ احداً فلتكافئه علناً، وليعرف الناس ماذا تقاضى؟ وكم؟ ولقاء ماذا؟ اما اذا كانت تريد مكافأته سراً فهذا يعني انّ هناك شيئاً غير قانوني او خاطئاً، ان تكون شفافاً يعني انك تملك كل الثقة بما تقوم به.
الجميع يعرف انّ واقع القطاع العام بات صعباً، وهناك تغطية للموظفين ليرتشوا لأنّ معاشاتهم غير مقبولة، وهذا واقع مستمر منذ ما قبل الأزمة، إذ تعرف الدولة انّ موظفيها يلجأون إلى السمسرة والرشوة لزيادة مداخيلهم، وهي تسمح لهم بذلك لانّها عاجزة عن ضبط الامور في القطاع العام. الشفافية تقدّم حلاً اساسياً في هذا الاطار، فستتوقف الصفقات الكبيرة والهدر غير المنطقي، وسيصبح واضحاً عدد الموظفين في كل ادارة ومهماتهم، وسيتوقف التوظيف العشوائي لتستعيد الادارة العامة فعاليتها وانتاجيتها، وحينها تتحسن المعاشات ولن يضطر الموظف الى تقاضي الرشوة، كما ستتحقق العدالة في التقديمات، ولن تكون مبنية على استنسابية ومصالح شخصية، فهي ستكون علنية. وهناك نموذج في الأمن العام قدّمه النائب اللواء جميل السيد في ضبط الادارة وزيادة الفعالية وزيادة التقديمات، وحصل على تنويه من الأمم المتحدة.
نؤمن انّ الشفافية تقدّم حلولاً اساسية للتخبّط الذي نعيشه، ولذلك نتوجّه بنداء الى رئيس الجمهورية المقبل، ان يضع الشفافية أولوية في برنامج عمله، وبذلك يكون قدّم للبنان هدية قيّمة ستنعكس مفاعيلها على اطلاق اقتصاد منتج، وستساهم في إعادة الثقة ببلد أثبت تاريخه انّ الهدر والفساد فيه قادران على القضاء على اي ثروات ومداخيل.
بالاضافة الى ذلك، يجب تشجيع رجال الاعمال اللبنانيين في لبنان والخارج على ان يساعدوا البلد عبر مشاريع تعود عليهم بالربح، وهناك كثير من الفرص، طبعاً بعد تحقيق الشفافية التي ستساهم في تعزيز ثقة هؤلاء بالاستثمار في البلد، وايضاً خلق اجواء صديقة للاستثمار والتخلّص من القوانين الحقيرة التي تفرض ضرائب غير منطقية وتهرّب المستثمرين وتعرقل الانتاج. يجب تشجيع هؤلاء ليكونوا رواداً في تسلّم مشاريع نافعة تعود عليهم بالربح وتساهم في ازدهار البلد وخلق فرص عمل منتجة.
ايضاً، هناك مشكلة اساسية في التوافق بين جميع الاطراف في البلد، فكل طرف مقتنع انّ الفريق الآخر فاسد يقوم بالسرقة، وهذا يدفعه الى القيام بالشيء نفسه، فكيف التزم بالقانون ودفع الضرائب اذا كان الفريق الآخر غير ملتزم، ويُصبح دخول اي طرف الى الحكومة من باب تقديم الخدمات لأتباعه وفريقه، وهذا ما بات يُعرف بـ»بالوزارات الخدماتية» والتي تحوّلت باباً للهدر والمنفعة. هذه المفاهيم يجب ان تتوقف والشفافية قادرة على ايقافها، لانّ حسابات الوزارات ومشاريعها ستكون علنية ومفتوحة. الشفافية قادرة على اعادة الثقة بين كافة الأفرقاء وتمكّنهم من فتح باب للحوار والتواصل للانتهاء من هذه المشكلة.
يقول الكاتب والخبير ديفيد برين «إنّ الشفافية هي المفتاح للمساءلة المتبادلة، والتي نستخدمها لنكون أحرارًا وأذكياء. إنّها الأداة المعجزة التي تمكننا من التشكيك في أكاذيب الوحوش».