كل الجدل الدائر اليوم حول صيغة التجديد لـ»اليونيفيل» لا يعدو كونه زوبعة في فنجان. فلا الأميركيون يريدون الذهاب في التحدي إلى الحدّ الأقصى ولا «حزب الله». وأما حديث وزير الخارجية عبد الله بوحبيب عن صيغة للتجديد تعتمد الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، فلا يبدو واقعياً في الأساس، لأن أحداً لم يتداول بهذه الصيغة فعلاً. ويوحي كلام بوحبيب أنّ لبنان أراد «تكبير الحجر»، رداً على فعل مُماثل من جانب الولايات المتحدة، عندما دعت إلى اعتماد صيغة تمنح «اليونيفيل» مزيداً من الاستقلالية في حركتها.
والأرجح أنّ التشدد المتبادل يترجم مناورة ستنتهي بتثبيت النص الساري المفعول حالياً، أي الذي تم اعتماده العام الفائت، والذي يسمح لهذه القوات بهامش حركة أوسع بمعزل عن التنسيق مع الجيش اللبناني، علماً أن هذا النص لم يطبق فعلاً. فعلى أرض الواقع، بقي التنسيق قائماً كما لو أن الصيغة القديمة هي السارية المفعول.
ad
ويعني هذا الحرص من جانب «اليونيفيل» أن الأطراف الدولية ترغب في تجنب تعريض هذه القوات وأمن الجنوب اللبناني لاختبار العداء والمواجهة المكلفة مع «حزب الله». وقد ظهرت المؤشرات إلى ذلك مراراً.
فالصدامات الدموية التي جرت بين «الأهالي» ودوريات «اليونيفيل» انتهت كلها بـ»اللفلفة» على الطريقة اللبنانية، ولم تظهر لدى دول «اليونيفيل» أي رغبة في تغيير قواعد الاشتباك أو خلق تشنّج مع البيئة الشعبية والسياسية الحاضنة في مناطق انتشارها.
وثمة خلفية إقليمية تبرر هذا الأمر، وتتمثّل في مناخات التهدئة السائدة بين الولايات المتحدة وإيران. فقد أنجز الطرفان أخيراً، بهدوء ومن دون مقدمات معلنة، صفقة إفراج عن سجناء أميركيين في طهران، مقابل إفراج واشنطن عن أرصدة إيرانية قيمتها 6 مليارات دولار كانت محتجزة في كوريا الجنوبية.
ولم تستجب إدارة الرئيس جو بايدن لضغوط شديدة حاولت حكومة بنيامين نتنياهو ممارستها بهدف دفع واشنطن إلى مواجهة سياسية وعسكرية مع طهران. واليوم، يغرق رئيس الوزراء الإسرائيلي في أزمة داخلية حادة تمنعه من التخطيط للقيام بأي عمل ذي شأن في الخارج، حتى على الخطوط شمالاً. وهذا ما يريح الإدارة الأميركية الحالية.
يتوافق بايدن مع نتنياهو على هدف واحد، في ما يتعلق بإيران، وهو عدم المس بأمن إسرائيل أو بمصالحها الحيوية. وأما النفوذ الإيراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن وسائر الخليج العربي فيصبح مسألة قابلة للنقاش في واشنطن. وهناك ما يمكن اعتباره اعترافاً من جانب إدارة بايدن بأن لإيران حقها في بناء إطار لنفوذها الإقليمي. ولكن، تريد واشنطن أن يبقى نفوذ إيران مضبوطاً تحت سقف التفاهم معها. ولذلك تستمر لعبة عض الأصابع بين الطرفين في مناطق النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، حيث يقع الاشتباك أحياناً، كما يمكن إبرام اتفاقات موضعية.
وصحيح أن مفاوضات واشنطن وطهران لم تتوصل إلى إبرام اتفاق جديد حول الملف النووي، لأسباب عديدة أبرزها انغماس الولايات المتحدة في حرب أوكرانيا، إلا أن مقدار التوتر الذي كان قائماً بينهما خلال ولاية دونالد ترامب تراجع بشكل واضح.
ويمكن اعتبار اتفاق الترسيم بين لبنان وإسرائيل، بوساطة الولايات المتحدة، في خريف العام الفائت، بمثابة اتفاق بين الولايات المتحدة وإيران في الدرجة الأولى، لأنّ الطرف المحلي الأساسي الذي فاوضَ الأميركيين لسنوات ثم منح الضوء الأخضر للاتفاق هو «حزب الله». ولم يكن ممكناً أن يولد هذا الاتفاق من دون موافقته.
وفي نظر عدد من الخبراء أن اتفاق الترسيم يتجاوز واقع تَقاسم الغاز على الشاطئ الشرقي للمتوسط، ويؤشر إلى مقايضات أخرى ممكنة سياسياً في الشرق الأوسط بين الولايات المتحدة وإيران، قد تشارك فيها أطراف إقليمية أخرى. وهذه المقايضات قد تتم «على الحامي» أو «على البارد». وفي هذا السياق، ينظر البعض إلى السخونة المستجدة حالياً سوريا واليمن.
وأما في لبنان، فمن الواضح أن الأطراف المعنية جميعاً تحرص على «الستاتيكو» الذي أرسَته صفقة الترسيم البحري، والتي تم فيها على الأرجح توزُّع المكاسب بين الأقوياء أصحاب القرار. فالولايات المتحدة اعترفت في هذا الاتفاق بأن النفوذ الأكبر في لبنان هو لـ»حزب الله»، مع ما يعنيه ذلك من مكاسب مختلفة يمكن أن يحصل عليها. ولكن، في المقابل، تكفّل «الحزب» بضمان أمن الطاقة في المتوسط وبوابة أوروبا.
وهذا هو التبرير الأساسي لاندفاع إدارة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى مسايرة طهران في لبنان. فباريس تدرك أنّ الولايات المتحدة كانت سبّاقة إلى الاعتراف بالنفوذ الإيراني في لبنان كأمر واقع. وكان الفرنسيون أساساً يخرقون الحصار الذي ضربته إدارة ترامب على إيران. ويرى الفرنسيون اليوم أن الخيار الواقعي الذي يمكن أن يحفظ لهم موقعهم في لبنان هو أن يضعوا اليد في يد «الحزب».
وإذ تبدأ الحفارة الفرنسية عملية التنقيب في البلوك 9، ينشغل مجلس الأمن الدولي بالبحث عن صيغة للتجديد لقوات «اليونيفيل»، فيما تتأخر التسويات السياسية الداخلية إلى موعد غير محدد.
وفي الترجمة السياسية، التنقيب عن الغاز وأمن الجنوب والطاقة وامتياز الإمساك بالقرار السياسي الداخلي كلها موضوعة في سلة تفاهم واحدة بين واشنطن وطهران. وعلى الأرجح، هذه الصفقة «الدسمة» تتكامل ما دامت تحفظ مصالح الطرفين.