أن تتحول الدولة إلى مستورد للبنزين والغاز المنزلي، إضافة إلى المازوت، فهذا أمر يؤدي حكماً إلى تعزيز الأمن الطاقوي في لبنان. لكن، في المنطق التجاري، الأمر مختلف. هل يمكن لمنشآت النفط أن تحقق الأرباح كما أعلنت وزارة الطاقة؟ المؤشرات الأولية تنفي ذلك، خصوصاً أن مصرف لبنان يتعامل مع المنشآت أسوة بكل الشركات المستوردة للنفط، فارضاً عليها تأمين 15 في المئة من الاعتمادات بالدولار.
حتى اليوم، لم يقيّم أحد تجربة استيراد البنزين من قبل منشآت النفط. لا المنشآت فعلت ولا وزارة الطاقة. من المبكر القيام بهذه الخطوة، لكن مع ذلك، بدأت تخرج توقعات تشير إلى خسائر يمكن أن تتضح معالمها قريباً، نتيجة الكلفة العالية التي تتكبدها المنشآت على استيراد هذه المادة الحيوية، خصوصاً أن «البريميوم» (الأكلاف التي تُضاف إلى سعر النفط بعد شرائه في بلد المنشأ وحتى يصل إلى بيروت)، حددت، بحسب نتيجة المناقصة، بـ39 في المئة، مقابل 26 في المئة تدفعها الشركات المنافسة. رئيس لجنة المنشآت سركيس حليس لا يكترث لهذه «الشائعات». يقول: «انتظروا لتروا… سأعلن كل الأرقام لتبيان ما حققناه من أرباح».
قبل أن يتضح مسار استيراد البنزين، أعلنت وزيرة الطاقة ندى البستاني انضمام الغاز المنزلي إلى المشتقات النفطية التي تستوردها المنشآت. هذه المرة لم تكتف بنسبة 10 في المئة، حصتها من سوق البنزين، بل وصلت النسبة إلى 35 في المئة من حاجة السوق للغاز. مع ذلك، لا مناقصة قريباً. الأمر يحتاج إلى 4 أشهر بالحد الأدنى. فالخزانات التي تملكها المنشآت مؤجّرة حالياً للشركة الوحيدة التي تحتكر استيراد الغاز في لبنان، أي شركة «نافتومار» التي تستحوذ على نحو 40 في المئة من سوق الغاز في شرق المتوسط. اللافت أن الشركة التي أسسها طلال الزين ويديرها بعد وفاته محمد رباح، لا تستعمل الخزانات التي تدفع 300 ألف دولار بدل إيجارها شهرياً. هدفها من إيجارها هو حجزها فقط ومنع أي شركة أخرى من استعمالها.
منذ يومين وجّهت المنشآت رسالة رسمية إلى إدارة الشركة تطلب فيها استرداد الخزانات. وبحسب العقد، للشركة مهلة 3 أشهر لتخلي. لكن لأن الخزّانات لا تُستعمل حالياً، فستحتاج إلى الصيانة قبل استعمالها، بما يجعلها جاهزة بعد نحو أربعة إلى خمسة أشهر بالحد الأدنى.
خفض سعر الغاز؟
بثقة تامة، يؤكد حليس أن تجربة استيراد الغاز وكسر احتكار الشركة المستوردة حالياً، ستنجح. يقول ذلك، رغم معايشته محاولات سابقة لمنافستها كانت نتيجتها إفلاس المنافس، ببساطة لأن لشركة الزين قدرة على التحكم بالسعر. وللقضاء على أي منافس كان يكفي كسر الأسعار لفترة وجيزة.
الفارق حالياً، بحسب حليس، أن وزارة الطاقة أمنت الحماية للمنشآت، من خلال تحديد الحد الأدنى لحصتها السوقية بــ35 في المئة. هذا يعني أن الشركة المحتكرة حالياً لن تكون قادرة على استيراد أكثر من 65 في المئة من حاجة السوق، التي تصل إلى 270 ألف طن سنوياً. في المقابل، يؤكد مصدر مطلع على سوق الغاز أن هذا التوزيع للحصة السوقية سيكون صعب التطبيق، فالاقتصاد حر ولن تتمكن الدولة من حصر الاستيراد. ويسأل: كيف يمكن منع استيراد الشركة من استيراد ما تشاء؟ وحتى مع افتراض القدرة على تحديد حصتها، لا بد من الإجابة على سؤال: ماذا لو قررت الشركة المنافسة للمنشآت التوقف عن الاستيراد لشهر على سبيل المثال، هل سيكون بمقدور الأخيرة تعويض الفارق؟ بالطبع سيكون ذلك مستحيلاً نظراً للقدرة المحدودة لسعة خزانات الغاز في المنشآت، والتي تقتصر على 1800 طن. في الأساس ستواجه المنشآت مشكلة في تأمين الـ35 في المئة، التي تساوي 95 ألف طن سنوياً، أو ما يعادل 8 آلاف طن شهرياً، بقدرتها التخزينية هذه. هذا يعني أن تنتظر 6 بواخر في البحر شهرياً إلى حين تفريغ الخزّانات، إلا إذا قررت المنشآت بناء خزانات جديدة، الأمر المستبعد حالياً.
طبعاً ليس البديل الإبقاء على الاحتكار القائم منذ سنوات، لكنه يعني، في المقابل، ضرورة البحث عن استراتيجية تشجع الشركات الأخرى على الدخول في المنافسة، على الأقل إلى حين تتمكن الدولة من تحضير بنية تحتية قادرة على المنافسة. من الاقتراحات التي لطالما طرحت كان فتح المنشآت أمام الشركات لبناء خزانات على طريقة BOT على سبيل المثال، بحيث يمكنها أن تستفيد منها لفترة محددة على أن تعود بعدها إلى المنشآت.
كيف تستورد الدولة 95 ألف طن من الغاز بقدرة تخزينية لا تتخطى 1800 طن؟
ليس الهدف حالياً هو تأمين مخزون استراتيجي من تلك المادة الحيوية فقط. وزيرة الطاقة أكدت أن استيراد الدولة للغاز سيساهم في تخفيض سعره على المستهلك. حليس أكد بدوره ذلك، انطلاقاً من قاعدة بسيطة هي أن المنافسة يفترض أن تؤدي إلى التخفيض.
«من الضروري أن تملك الدولة احتياطاً من المواد الاستراتيجية لتغطية أي نقص في حال حصوله»، يقول مصدر معني. لكنه، في المقابل، يرفض الربط بين استيراد الدولة والسعر. يذكّر أن وزارة الطاقة هي التي تحدد سعر كل المشتقات النفطية، وهي تأخذ في الاعتبار السعر العالمي، بغض النظر عن الكلفة في لبنان. وهذا يعني أن التخفيض لا يحتاج سوى إلى قرار منها، قبل استيراد الدولة وبعده. وبالتالي فإن قرار الخفض لم يكن ليكلّفها شيئاً لو أصدرته خلال السنوات السابقة، بخلاف اليوم، حيث الخفض سيعني خفضاً في أرباح منشآت النفط أيضاً.
وزارة الطاقة تتراجع
الأمر نفسه ينطبق على استيراد البنزين الذي بدأته المنشآت مؤخراً. تلك خطوة تساهم تلقائياً في تعزيز الأمن الطاقوي للبنان، لكن لا يمكن اعتباره، تجارياً، خياراً ناجحاً. في الأساس، لم يتأخر الوقت قبل أن يسقط وعد وزيرة الطاقة ببيع البنزين بالليرة اللبنانية. صمدت المنشآت لأقل من شهر، قبل أن تُعلن نفاد الدولارات التي لديها (كانت قد بدأت باستعمالها منذ نهاية أيلول لدى شرائها المازوت).
ابتداءً من الأسبوع الماضي، صار يتوجب على كل من يود شراء البنزين من المنشآت تأمين 15 في المئة من ثمنه بالدولار، لأن مصرف لبنان رفض تغطية كامل قيمة الاعتمادات بالدولار، وأبلغ المنشآت التعامل معها أسوة بالقطاع الخاص. ولذلك، أبلغ حليس وزيرة الطاقة بأن قرار مصرف لبنان لم يترك لإدارة المنشآت سوى خيار تأمين الـ15 في المئة المطلوبة بالعمل الاجنبية من السوق، أي أن كل من يشتري البنزين من الدولة عليه، من اليوم فصاعداً، دفع 15 في المئة من قيمة الفاتورة بالدولار.
أي أمر آخر سيؤدي إلى وقوع المنشآت في المحظور والتوقف عن استيراد المشتقات النفطية. فالمنشآت تستورد 3 بواخر أسبوعياً بين مازوت وبنزين، وتغطي السوق بـ 8 ملايين ليتر يومياً، ما يعني أن تعطل هذه الآلية قد يؤدي إلى نقص حاد في هذه المشتقات.
كل ذلك يعني عملياً إلغاء القيمة التفاضلية التي حظيت بها المنشآت منذ استوردت أول باخرة بنزين (30 ألف طن) من أصل خمس ينص عليها العقد مع شركةZR energy، ما يعني أنه إضافة إلى الخسائر في فارق «البريميوم»، ستلحق بالمنشآت خسائر تصل إلى 2000 ليرة عن كل صفيحة بنزين. وإذا ما تم التعامل مع المنشآت بالمنطق التجاري، فيجب إضافة أجور الموظفين وإيجار الخزانات إلى الكلفة، (الموظفون يحصول على رواتبهم من الدولة والخزانات هي ملك الدولة) وبالتالي، عندها الخسائر ستكون حتمية.
صرّاف القطاع الخاص
أول باخرة استوردتها منشآت النفط تهافت عليها موزعو البنزين لشراء كميات منها. حتى المستوردون اشتروا، فالدفع كان بالليرة. وهذا أمر أدى إلى تعاملهم مع المنشآت كصرّاف يؤمن لهم الدولارات بالسعر الرسمي، ويخفف عن كاهلهم عبء تأمين 15 في المئة من قيمة ما اشتروه بالدولار. وعليه، هل ستحافظ المنشآت على معدل مبيعاتها، بعدما فقدت ميزتها التفاضلية هذه؟ الأمر بحاجة إلى بعض الوقت لتبيانه، لكن الواقع صار على الشكل التالي: المنشآت واحدة من 11 شركة مستوردة، مع فارق أن الشركات العشر الأخرى تشكل في ما بينها كارتيلاً حقيقياً يستورد النفط بشكل منسّق، حيث يتم تبادل المعلومات حول أسعار البنزين الذي يمكن لكل شركة الحصول عليه من بلد المنشأ… ثم يتم اعتماد السعر الأقل ويتم تفويض الشركة صاحبة هذا السعر بالاستيراد الى لبنان وتوزيع البنزين على خزانات الشركات الأخرى. وغالباً ما تكون الشركة صاحبة السعر الأقل قد تعاقدت مع أطراف خارجية لحجز البضاعة وشرائها عندما تنخفض الأسعار العالمية.
اما جدول تركيب الأسعار فيصدر اسبوعياً بالاستناد الى متوسط سعر طن البنزين عالمياً على مدى اسبوع عمل كامل، وهذه الطريقة باحتساب السعر المحلي تؤدي الى زيادة هامش الأرباح في ظل طريقة عمل «الكارتيل» وغياب المنافسة في السوق.
لهذا، ستبقى الدولة الطرف الأضعف في هذه المعادلة، خصوصاً أن مصرف لبنان لم يعط معاملة تفضيلية للمنشآت بالرغم من أن مالها مال عام. أضف أن 80 في المئة من المحطات تملكها الشركات المستوردة، وهي ملتزمة معها بعقود تلزمها أن تشتري منها.