Site icon IMLebanon

الغاز: إعادة تموضع إستراتيجي

في خطوة شبه مفاجئة، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وقف العمل في مشروع أنابيب الغاز الجنوبي الذي كان من المفترض أن يؤمّن الغاز إلى بلدان جنوب غرب أوروبا. هذا الأمر يحمل في طياته إعادة تموضع إستراتيجي من قبل روسيا له تداعيات إقتصادية خطيرة.

يُمثل إستهلاك الغاز الطبيعي في العالم 20% من الإستهلاك الحراري الإجمالي أي ما يوازي الـ 3350 مليار م3. وتستفيد من هذه الثروة الإقتصادات المُتطورة بالدرجة الأولى نظراً الى تطور الماكينة الاقتصادية في هذه الدول حيث تستهلك أميركا الشمالية، أوروبا وآسيا أكثر من 60% من هذه الكمية. وتُسيطر منطقة الشرق الأوسط والإتحاد السوفياتي سابقاً على أكثر من 75% من الإحتياطي العالمي.

يتميز الغاز بصعوبة نقله من مكان الإنتاج إلى مكان الإستهلاك ويعود السبب إلى طبيعته الغازية والتي لا تسمح بنقله بحرية نظراً إلى أن نقله يتطلب ضغطا مرتفعا قد يؤدي إلى إنفجار الناقلة في حال تعرضها إلى حرارة عالية. هذا الأمر دفع إلى تسييل الغاز الطبيعي وتحويله إلى سائل يسهل معه النقل. إلا أن هذه التقنية تزيد الكلفة نظراً إلى الوسائل التي تتطلبها هذه العملية.

من هنا درجت فكرة أنابيب الغاز لنقله إلى أماكن بعيدة عن مكان الإنتاج وبقي عامل المسافة أساسيا في تحديد سوق البيع كما هي الحال في أوروبا وروسيا اللتين بحكم موقعهما الجغرافي وطبيعة إقتصاداتهما تمثلان قطبا إستهلاكيا وقطبا إنتاجيا بإمتياز.

الغاز بين روسيا وأوروبا

يعتمد الأوروبيون بشكل كبير على الغاز الطبيعي في إقتصادهم، ويُشكّل الإستهلاك المنزلي الإستخدام الأول للغاز الطبيعي. تحتل روسيا المرتبة الأولى في واردات أوروبا من الغاز الطبيعي مع 40% من مجمل الواردات وخط الغاز الرئيسي الذي تزوّد به روسيا أوروبا بالغاز يمّر عبر أوكرانيا.

كما بدأت المشاريع على أنابيب أخرى وخصوصاً مشروع السيل الجنوبي والذي هو عبارة عن أنبوب يعبر البحر الأسود إلى إيطاليا مروراً ببلغاريا، صربيا، المجر، والنمسا.

هذا التعلق بالغاز الروسي دفع بالروس إلى إستخدام هذه الورقة في الحسابات الجيوسياسية بهدف ردع الأميركيين والغرب عامة عن بسط نفوذهم على دول أوروبا الشرقية المعروفة تاريخياً بأنها تحت النفوذ الروسي.

وترجمت هذه الحسابات في مواجهات عدة تم فيها قطع الغاز عن أوروبا وذلك في الأعوام 2006 و2009 حيث أخذت دول أوروبا الشرقية ومعها قسم من دول أوروبا الغربية بتحمّل قساوة الشتاء مما دفع الأوروبيين إلى التراجع عن بعض المواقف السياسية تجاه دول أوروبا الشرقية.

لكن العام 2013 شهد إنطلاق المواجهة العسكرية في أوكرانيا كنتيجة لإتفاق الشراكة مع الإتحاد الأوروبي والذي كانت الحكومة الأوكرانية تنوي توقيعه في تشرين الثاني 2013 مما دفع روسيا إلى قضم شبه جزيرة القرم. وقام الأوكرانيون من أصل روسي بالإنشقاق عن أوكرانيا التي فقدت السيطرة العسكرية في شرق أوكرانيا تحت تأثير الماكينة العسكرية الروسية.

وبُعيد سقوط الرئيس الأوكراني السابق لانوكوفيتش في شهر كانون الثاني 2014، قامت الشركة الروسية غازبروم برفع أسعار الغاز بشكل مفاجئ وكبير وصرحّت أنها لن تُسلم الغاز إلى أوكرانيا إلا لإذا تمّ دفع الثمن مُسبقاً. هذا الإجراء كان نتيجة فشل المفاوضات بين أوكرانيا الغربية مدعومة من أوروبا وأوكرانيا الشرقية مدعومة من روسيا.

إخذت العقوبات الأوروبية والأميركية على روسيا منحى تصاعدياً مع الوقت وبدأ الاقتصاد الروسي ومعه الروبل (العملة الروسية) بتحمل العواقب حيث فقد الروبل الكثير من قيمته وهوت بورصة موسكو مع غياب الإستثمارات الأوروبية في روسيا، ومع العقوبات على إستيراد وتصدير البضائع من وإلى روسيا. فما كان من الروس إلا أن خففوا من تصدير الغاز الروسي إلى أوروبا لكن هذا الإجراء باء بالفشل مع التداعيات الكارثية على الاقتصاد الروسي.

الرد الروسي

نظراً للوضع الاقتصادي الذي بدأ بالتراجع، عمدت روسيا إلى تغيير الوضع عسكرياً على الأرض . ونجحت في السيطرة على جزيرة القرم كما وفي السيطرة على القسم الجنوبي الشرقي عبر الميليشيات الموالية لها.

كما قامت بإرسال رسائل تهديد عبر إختراق الأجواء الأوروبية بطائرات حربية. وأخر وأخطر هذه الرسائل ما حدث في الشهر الماضي حيث قامت قاذفات إستراتيجية بإختراق المجال الجوي الأوروبي في أكثر من نقطة وعلى مسافات بعيدة طالت بحر الشمال، البحر الأسود وبحر البلطيق.

لكن هذا الأمر لم يكن إلا حافزاً للأوروبيين للإستمرار في العقوبات خوفاً من تجارب الماضي اللينينية والهتلرية وغيرها التي أغرقت أوروبا في الحروب على مدى قرن.

لذا عمدت روسيا إلى لعب ورقة إقتصادية وإستراتيجية بإمتياز عبر وقف مشروع السيل الجنوبي (الخط الأحمر على الرسم) وإستبداله بخط أنابيب إلى تركيا وبالتحديد أنقرة (الخط الأصفر العريض على الرسم).

هذا الأمر يسمح لروسيا بتحقيق ثلاثة أهداف إستراتيجية بالنسبة لها:

1- معاقبة دول أوروبا الشرقية على عصيانها عبر قطع الغاز عنها ورفض بيعه إليها.

2- توصيل رسالة إلى دول الغرب وبالتحديد الأوروبيين بعدم التعامل مع روسيا كأنها دولة عادية؛

3- المحافظة على مدخول مالي من الغاز خلال فترة بناء الأنبوب إلى تركيا.

لكن يبقى أن الخسائر على دول أوروبا الشرقية تتعدى الخسائر الناتجة عن إنقطاع الغاز وتطال المبالغ المالية التي كانت ستتلقاها الدول التي يمر فيها الأنبوب كبدل مالي وهي بلغاريا، صربيا، المجر، والنمسا وإيطاليا.

وسيتم بحسب التصريحات الروسية خلق معمل لتسييل الغاز الطبيعي في تركيا لكي يتم تصديره إلى الدول الأوروبية عبر البر أو عبر البحر بواسطة ناقلات متخصصة مما يعني زيادة عدد الشاحنات على الطرقات الأوروبية وعدد البواخر في البحر وما لذلك من تعقيدات لوجستية تتبعها.

ردة فعل الغرب

يبقى السؤال عن ردة فعل الغرب على القرار الروسي والتي لا يُمكن إلا أن تصب في خانة تنويع المصادر أي الإتجاه إلى الشرق الأوسط الذي يحوي على كم هائل من الإحتياطي وخصوصاً قطر.

كما أنه من المحتمل أن تعمد هذه الدول الى حث تركيا للإنسحاب من هذا المشروع عبر طريقين مختلفين: الأول عبر حلف شمال الأطلسي والذي تحتاجه تركيا اليوم أكثر من أي وقت مضى لتحمي نفسها من الشقيق العدو (داعش). والثاني عبر المناورة على ملف إنضمام تركيا إلى أوروبا.