يستعد لبنان للدخول رسمياً في عصر «غاتكا»، بعد بدء تطبيق «فاتكا»، لكن يبدو ان التجربة الدولية لنظام الافصاح عن المعلومات المصرفية للثروات ستكون أصعب وأشد تعقيداً من النظام الأميركي، المحصور بالسلطات الأميركية، وتحديداً بالجهة المولجة ملاحقة تحصيل الضرائب من حاملي الجنسية الأميركية.
قبل أسابيع، ساد قلق جراء انتشار معلومات متعلقة باحتمال وضع لبنان على اللائحة السوداء، ومنعه الولوج الى الاسواق المالية العالمية، وفرض عقوبات عليه.
على المستوى الشعبي، لم يكن الامر مفهوماً، ولم تكن المعلومات المتوفرة كافية لكي يدرك المواطن ماهية الملف الجديد المطروح، خصوصا انه تزامن مع القانون الاميركي لمكافحة تمويل حزب الله عالمياً، (HIFPA) الذي خطف الاضواء. لكن على المستوى المصرفي والرسمي، خصوصا في الكادرات العليا في وزارة المال اللبنانية، كانت المشكلة واضحة المعالم. وكان المطلوب التوقيع على نظام عالمي جديد يُعرف باسم «غاتكا»، وهو النسخة الدولية لنظام «فاتكا» الأميركي.
• لماذا تردّد لبنان في التوقيع على الانضمام الى هذا النظام الجديد؟ وما هي فلسفة هذا النظام؟
في البداية، لا بد من الاشارة الى أن لبنان وقّع على الاتفاقية التي تخوّله الانضمام الى نظام «فاتكا». وسوف تصبح المصارف مُلزمة ابتداء من ايلول 2018 تقديم المعلومات المالية المتعلقة بالحسابات لديها بصورة تلقائية الى الدول المنضوية في النظام وعددها تجاوز حتى الان الثمانين دولة.
في العودة الى مرحلة التردّد في الانضمام الى «غاتكا»، يبدو ان المعنيين كانوا يخشون التوقيع على اتفاقية تضع حداً لنظام السرية المصرفية الذي يعتبر الكثيرون انه أحد أعمدة القطاع المصرفي الذي بنى أمجاده منذ الستينيات مستندا الى هذا النظام. وقد اضطرت السلطات اللبنانية الى التخلي الطوعي عن جزء من السرية المصرفية، من خلال تطبيق «فاتكا».
ومع التوقيع على «غاتكا»، أصبحت السرية المصرفية في لبنان موجودة على الورق فقط، لكنها انتهت عملياً. هذا الواقع يفسّر التأخير في توقيع لبنان على هذا النظام، ولو لم تصل الامور الى مرحلة دقيقة كانت ستبدأ معها مرحلة فرض عقوبات دولية، لكان واصل لبنان الرسمي عملية مقاومة الدخول في هذا النظام.
في تبسيط لنظام «غاتكا»، يمكن القول انه يستند الى فكرة تبادل المعلومات المالية بين الدول الموقّعة عليه، بحيث يستحيل على مواطني هذه الدول التهرّب من دفع الضرائب على أموالهم المنقولة، من خلال ايداعها مصارف في دول أخرى.
هذا النظام كان مُطبّقاً بشكل جزئي مع بعض البلدان التي وقّعت فيما بينها اتفاقيات منع الازدواج الضريبي، لكنها كانت محصورة بمبدأ تحت الطلب (under request) فقط. لكن النظام الجديد بات يشمل كل الحسابات المصرفية المحدّدة في هذا النظام دون استثناء، وتبادّل المعلومات يجري تلقائيا من خلال برنامج معلوماتي متطور يسمح بانسياب المعلومات بين الدول المنضوية.
وهذا يعني ان المعلومات المتعلقة بحسابات وحركة اموال فئة من المودعين في المصارف اللبنانية، بالاضافة الى المعلومات الشخصية عنهم، والتي كانت حتى الامس القريب تخضع للسرية المصرفية، سوف تصبح في متناول اكثر من 80 دولة حول العالم بصورة تلقائية. وهذا ما يفسّر انتهاء حقبة السرية المصرفية، وما يؤكد ان لبنان لم ينضم اختياريا الى هذه المنظومة، بل مُرغماً.
• ما هي التداعيات المحتملة بعد البدء في تطبيق نظام «غاتكا» في لبنان؟
النقطة الاولى المطروحة في هذا النظام، تتعلق بالكلفة التشغيلية التي ستضطر الى دفعها المصارف للتمكّن من تطبيقه، بما يزيد الاعباء التشغيلية على القطاع ويزيد الضغط بصورة خاصة على المصارف الصغيرة.
النقطة الثانية، تتعلق بحركة الأموال، واحتمال انتقال ودائع كانت تجد في لبنان ملاذاً آمناً لها.
النقطة الثالثة التي تثير الكثير من علامات الاستفهام ترتبط بالمعلومات الواردة لا الصادرة الى لبنان. وتماماً كما ان المصارف اللبنانية سوف تزوّد وزارات المالية والجهات المختصة في أكثر من 80 دولة حول العالم، بالمعلومات حول أموال مواطنيها في لبنان، فان وزارة المالية اللبنانية سوف تتلقى معلومات مفصّلة عن المواطنين اللبنانيين الذين يودعون أموالهم هذه البلدان.
وهنا تُطرح أكثر من علامة استفهام حول كيفية تعاطي السلطات اللبنانية الرسمية مع هذه المعلومات. وهل سيتمّ استخدام هذه المعلومات لتحصيل الضرائب، كما هو الهدف من «غاتكا»، ام سيدخل الملف في بازار الاستغلال والابتزاز السياسي كم هو مُرجّح؟
تبقى الاشارة الى ان نظام «غاتكا» قد يفرض حركة نقل أموال وودائع ناشطة بين الدول، خصوصا ان هناك حوالي مائة دولة لم توقّع على الاتفاقية، ومعظمها من الدول الصغيرة، في حين ان الدول الاوروبية، والدول الكبرى وفي مقدمها الصين، انضمت الى هذا النظام. لكن المفارقة الكبرى، ان الولايات المتحدة الأميركية لم توقّع على اتفاقية «غاتكا»، وهي باقية خارج هذا النظام، ومكتفية بنظامها الخاص «فاتكا».