ما من شك في أنّ سنة 2022 ستكون سنة تكريس التحولات الكبرى في الشرق الاوسط. كان من المفترض ان تبدأ هذه التحولات بالظهور في بحر السنة الحالية. لكن المفاوضات الشائكة والمتشعبة والمراس الايراني الصعب وتشابك الملفات في منطقة معروف عنها بأنها الأكثر تعقيداً في العالم، اضافة الى الازمات الداخلية في كل بلد، كل ذلك جعل الامور تأخذ مداها، لا بل أبعد من مداها في كثير من الاوقات.
ايام وتُستأنف المفاوضات غير المباشرة بين الولايات المتحدة الاميركية وايران. التفاؤل قد لا يكون نابعاً مما ستحمله هذه الجولات فهي ليست اكثر من مؤشّر لمحادثات اخرى اكثر اهمية لا بد انها تدور في مكان ما وتلامس ما هو محرّم طرحه في العلن. لذلك نشطت الحركة بنحو لافت أخيراً خصوصا على الساحة السورية وكانت حركة معبّرة.
الامارات تفتح طريق استعادة سوريا الى الحضن العربي، هي خطوة تحمل عناوين كثيرة، لكن يبقى عنوان واحد يتجانس مع متطلبات المرحلة ويقضي بإعادة ملء المساحة الفارغة المحيطة بقصر المهاجرين للتخفيف من الاستئثار الإيراني بالعلاقة مع الرئيس السوري بشار الأسد.
وفي الوقت نفسه وبعد طول أخذ ورد، نجحت موسكو في اقناع الايرانيين بالانسحاب من مطار «تي. فور» العسكري بالقرب من حمص، بالتزامن مع زيارة وفد روسي لطهران.
في السابق كانت طهران تلحّ على موسكو بأن تنشر طائراتها على كل مساحة المطار واجزائه ما سيمنع الطائرات الاسرائيلية من قصف المواقع الايرانية في المطار. لكن القيادة العسكرية الروسية لم تستجب الطلب الايراني تحت اعذار عدة.
اما الآن فإنّ العكس هو ما حصل مع انسحاب الايرانيين من المطار بحجة سحب الذريعة من يد اسرائيل لاستهداف المطار، وتم نقل الايرانيين الى مطار الشعيرات الواقع قرب الحدود السورية ـ اللبنانية.
لا شك في ان كل هذه التحضيرات، أكان على مستوى فك العزلة العربية عن الاسد او على المستوى العسكري، امّا تنبئ بشيء ما يجري التحضير له، ويمكن اختصاره بما قاله اعضاء الوفد النيابي الاميركي خلال زيارتهم لبيروت وخلال جلسة خاصة: «بايدن مصر على انجاز الاتفاق مع ايران». وهو ما يفترض ان يعني أن مياهاً كثيرة تسيل تحت الارض. قد يكون الجميع اكتفى بالضربات المتلاحقة التي سادت خلال السنوات الماضية. فلا حاجة لمزيد من اختبارات القوة. إغتيال كبير علماء ايران النوويين، وقائد فيلق القدس قاسم سليماني، وانفجارات غامضة طاولت 4 منشآت، لكنّ ايران في المقابل نجحت في تجاوز هذه الضربات الامنية. حتى المنشآت فهي تمكنت من اعادة تشغيلها بسرعة لا بل وعملت على تحسين قدراتها.
في المقابل قلّصت الولايات المتحدة الاميركية من حضورها العسكري في المنطقة، وباشرت في وضع خططها لانسحاب كامل بعد انسحاب مُذلّ من افغانستان. لكنها تتمسّك بقاعدة «التَنَف لأسباب عسكرية وامنية للمستقبل المنظور على اقل تقدير.
ومَن يراقب الواقع الصاخب بشيء من الهدوء والتروي، يلاحظ ان ايران التي سحبت العديد من رجال الحرس الثوري من سوريا، تعمل على ترجمة حضورها العسكري الى نفوذ سياسي راسخ وطويل الأمد. فعلى سبيل المثال كانت قد اعلنت في وقت سابق نيتها بناء شبكة سكك حديد تربط غرب ايران بميناء اللاذقية عند الشاطئ السوري. كذلك نشطت شركات التطوير العقاري الايرانية في سوريا وتحديداً في العاصمة دمشق ومحيطها واستحوذت لها على حصص واسعة. وهي النقطة التي تثير حفيظة روسيا التي من جهة ما تزال في حاجة للقوى والمجموعات الموالية لإيران والموجودة على الارض لملء الفراغ ومساعدة الجيش السوري في وجه المجموعات التي تقاتله، ومن جهة اخرى لا تستسيغ ان يشاركها احد مستقبلاً النفوذ السياسي والاقتصادي وخصوصاً عند الساحل السوري.
هي مسألة متروكة للمرحلة اللاحقة ولو انّ مؤشراتها الآن توحي بأن قمة اتفاقات تجري حياكتها في قاعات بعيدة. هذا من دون اغفال الرغبة الروسية في أن يكون لها دور وحصة في بلوكات الغاز اللبنانية حيث ورشة الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية. الوفد النيابي الاميركي الذي زار لبنان جدّد بدوره ما دأب المسؤولون الاميركيون على ترداده أخيراً: «لن يكون لبنان ثمناً او جائزة ترضية لتسويات المنطقة». صحيح انّ تجاربنا التاريخية لا تجعلنا نثق كثيراً بالوعود الاميركية، لكن المسألة مختلفة الآن:
اولاً، لأن الفاتيكان الذي يضع الملف اللبناني بنداً اساسياً في لقاءاته المؤثرة، سمع التزاماً واضحاً ومباشراً من الرئيس الاميركي جو بايدن خلال لقائه الاخير مع البابا بهذا الخصوص.
وثانياً، لأن الاطاحة بالصيغة اللبنانية او الدستور اللبناني الحالي يلقى معارضة شاملة لدى معظم القوى المؤثرة والمحيطة بلبنان وفي طليعتها روسيا الحساسة جداً تجاه مصالحها في البحر الابيض المتوسط، واسرائيل بطبيعة الحال. أضف الى ذلك مصلحة مصر التي باشرت دوراً جديداً على الساحة اللبنانية كبديل اقليمي عن السعودية في رعاية اوضاع الشارع السني.
وثالثاً، لأن الظروف التي حتّمت في العام 1976 تلزيم لبنان لسوريا لم تعد موجودة في المطلق، ولم تعد هنالك قوى اقليمية كبرى متجاورة مع لبنان، الخريطة اختلفت بشكل جذري.
في اختصار، إنّ التحركات الحاصلة تحمل مؤشرات بليغة عن ترتيباتٍ ما تحصل في الخفاء وقطعت اشواطاً كبيرة وهذا ما سينعكس ايضا على لبنان، فالهزات المتتالية التي كانت تنفجر كان من الواضح انها محكومة بسقف لا يمكن أحد تجاوزه. أليست احداث الطيونة مثالاً واضحاً على ذلك؟ وبدل الانزلاق في اتجاه المجهول تم استيعاب هول الكارثة التي حصلت. ومَن حاول التذاكي كانت العقوبات له بالمرصاد. موسكو عينها على الغاز في البحر اللبناني، وواشنطن تريد انجاز ترسيم الحدود البحرية وهو ما يعكس وجود تفاهمات ملائمة في كواليس المفاوضات. وثمة مرونة لدى الاميركيين بتعديل رؤيتهم لـ«خط هوف» وهذا مؤشر اضافي. لكن استعادة المفاوضات تحتاج لعودة مجلس الوزراء الى الانعقاد. ولهذه العودة ثمن يريد تحصيله «حزب الله» ومعه الرئيس نبيه بري، ويقضي بإيجاد حل لملف التحقيقات في موضوع تفجير المرفأ. ومن البديهي الاستنتاج ان هذه التفاهمات ـ الصفقة ستحصل سريعاً خلال الايام المقبلة، وهو ما سيسمح بانعقاد مجلس الوزراء مجدداً الاسبوع المقبل على ما يبدو، على ان تكون اولى قراراته قبول استقالة جورج قرداحي وتعيين بديل عنه.
في الواقع للغاز قوة دفع هائلة، خصوصاً اذا ما كان يرتكز على ارض مفاوضات ملائمة تشارك فيها القوى المتنازعة في العلن والمتفاهمة في الكواليس.