المشهد رقم واحد: تضافرت جهود شرطة السير في قوى الأمن الداخلي وعناصر الجيش اللبناني منذ الساعة السادسة صباحاً أو أبكر ربما، لتنظيم صفين من السيارات ، قرب المدرسة الحربية، ينتظر سائقوها قبل طلوع الضوء ملء خزانات سياراتهم بالوقود. صفان لا أكثر حتى لا يتوقف السير على الأوتوستراد بسبب الإزدحام المجنون على المحطة.
المشهد رقم 2: الراديو تتحول إلى نجمة الإنتظار. نشرة الأخبار ورقة نعوة. صوت المذيعة أشبه بمجلس عزاء وخطاب رثاء. تبدأ بأن سعر صرف الدولار يطير إلى ما فوق الـ15 ألف ليرة لبنانية، ساخراً ومتحدياً منصات مصرف لبنان. والسوبرماركت أقفلت أبوابها وشرعت برفع ثمن السلع. تضيف بأن الصيدليات أعلنت الإضراب يومين إحتجاجاً على إنقطاع الدواء، وان المستشفيات تنعى خدماتها. وتتابع بأن “الأوغاد لا يزالون مختلفين على وزير من هنا وهناك ويتابعون سلخ جلد الشعب بعدما قتلوه”.
المشهد رقم 3: الصفان يتحولان ثلاثة صفوف، وأحياناً أربعة مع الإقتراب من الهدف. كلما تقدمت الصفوف متراً او نصف متر تنفرج اسارير السائقين الذين تحولت أعينهم الى أبراج مراقبة لوجوه بعضهم البعض. التقدم يستغرق ثوانٍ ثم يعود الشلل. الجميع متربصون يستخدمون مهارات مستحيلة كي لا ترتطم سياراتهم بسيارات الآخرين من جهة، وكي لا يسمحوا لمتسلل لئيم بإختراق الصف. وكأن السائق الذي إلى جانبهم عدو يحضّر خططاً استراتيجية ليحتل موقعاً متقدماً على جبهة المحطة. المسألة عويصة. ففي العيون تنعدم أي نظرة تسامح. حذر وتشدد وحزم وغضب كامن ينتظر من يرتكب هفوة لينفجر به. فطوابير الإنتظار الصباحية توقظ شياطين التوتر والجنون. والأهم الا يحصل اعتداء على أمان الصف.
المشهد رقم 4: يحرص رجال الشرطة على منع المتسللين الى الصفوف. يجب ان يبقى الصفان صفين. ممنوع الاختراق. وان فعلها أحدهم، لا يسكت من تم تجازوه. لكن الكمال لله. لذا لا بد من بعض التجاوزات والشوائب. حينها يستنفر الشرطي، يستل دفتر “الضبط” ويسدده بوجه المتجاوز.
احدهم يتوسل… ما معي ولا نقطة. يجيبه الشرطي: اقصد محطة أخرى وانتظر بالصف. والا… يشرع بتسجيل محضر ضبط، يتراجع الرجل قليلاً وينسحب من الصف الذي حاول اختراقه.
مشهد رقم 5: لكن الجرة لا تسلم كل مرة. وهيبة البذلة قد لا تردع الجميع. لذا يرفض سائق الإلتزام بالصف ويصر على خرقه في أكثر نقطة تقربه من الهدف وتنقذه من الانتظار في الطابور منذ أكثر ساعة. سائق بالكاد غسل وجهه، والواضح انه لم يشرب قهوته يصرخ بوجه الشرطي: مقطوع من البنزين. يجيبه: ابحث عن صف والتزم به. يرفض ويكرر: مقطوع من البنزين. يجدد الشرطي موقفه الحازم ويرفض حجته: “اذا كنت مقطوعاً من البنزين لم يكن عليك ان تغادر بيتك”. العناد يتحكم بالرجلين. الشرطي يسجل محضر ضبط، يستهين به السائق، فيرميه من نافذة السيارة. بهدوء وتماسك يلتقطه الشرطي ويطلب من السائق أوراقه. يرفض الأخير الامتثال ويفتح باب سيارته يصرخ غاضباً: كل دولتك ما بتخوفني.
تعلو الأصوات. فقد بدأ الإشكال وسيتطور.
ختامه مسك: في الاثناء تحرك صف السيارات، وصل دوري، فطلبت ملء خزان السيارة وتركت الأصوات المتصاعدة والفوضى المرافقة خلف ظهري. قلت للعامل : “فَوِّلْها”. تركت للخرطوم أن يفعل فعله وعيني على العداد. وعندما امتلأ الخزان، غادرت المحطة وكأني عنتر زمانه… قوية سعيدة مكتفية، أكثر مما كنت سأكتفي لو ربحت الجائزة الكبرى في اللوتو… فأنا لم أعد مقطوعة من البنزين.