لم يكن لبنان، ولا «حزب الله» بشكل خاص، بحاجة إلى كل الاتصالات العربية والدولية للضغط بهدف عدم فتح الجبهة الجنوبية ضدّ الكيان الاسرائيلي، لأسباب عدة اهمها وأبرزها، انّ لبنان الرسمي حكومة ووزارات معنية، سبق واكّدوا منذ سنوات انّ الدولة ملتزمة مندرجات القرار 1701، وانّ العلّة تكمن في خرق الكيان الاسرائيلي لهذا القرار آلاف المرات ولا من يراجع او يحاسب او يضغط من المجتمع الدولي لمنع هذه الخروقات للسيادة اللبنانية، ومنع اي تدهور أمني عند الحدود.
وكانت مواقف رئيسي المجلس النيابي والحكومة تؤكّد مراراً على هذا الموقف الرسمي، بخاصة بعد الانهيار الكبير الذي اصاب لبنان سياسياً واقتصادياً ومعيشياً، بحيث انصبّ الاهتمام الرسمي التشريعي والحكومي على بحث سبل معالجة هذا الانهيار، لا تفاقمه بمواقف توتّر الجو الحدودي اكثر.
كما انّ مواقف «حزب الله» كانت دوماً تؤكّد على ضرورة تدخّل المجتمع الدولي لمنع الخروقات الاسرائيلية الجوية والبحرية والبرية، ووقف الاستفزارات التي تقوم بها قوات الاحتلال ضدّ لبنان وعدم احترام سيادته والقرارات الدولية، لكن المجتمع الدولي كان يدير الإذن الطرشاء.
لكن بعد «طوفان غزة» الذي غمر الشرق الاوسط ومعظم دول العالم بتداعياته العسكرية والسياسية والانسانية، وفي ظلّ المجازر التي ارتكبها جيش الاحتلال في فلسطين المحتلة، واستمرار استعمال الإذن الطرشاء الدولية حيال ما يقوم به، كان لا بدّ «لمحور المقاومة» من موقف عملي قبل السياسي، يحدّ من اندفاعة الجنون الاسرائيلي، فكان بيان «حزب الله» ومواقف مسؤوليه بأنّ المقاومة في لبنان ودول المحور ليست على الحياد. وكانت الضربة الصاروخية الاولى والمحدودة من الحزب، بهدف تأكيد هذا الموقف، وتلتها بعض العمليات العسكرية المحدودة من قِبل الحزب وبعض الفصائل الفلسطينية، سواء عبر الحدود اللبنانية او السورية لاحقاً.
وإذا كانت هذه العمليات ما زالت محدودة في المكان والفعالية، فإنّ الهدف الأساسي منها حسب المتابعين، هو «إشغال العدو» بجبهة او جبهات صغيرة، ودفعه لحشد قواته على اكثر من جبهة لتخفيف الضغط والحشد العسكري حول غزة والضفة الغربية لنهر الاردن، وتوسيع القلق والخوف الاسرائيلي ومضاعفة اهتماماته وانشغالاته وتشتيتها في اكثر من مكان، والضغط اكثر على البيئة المجتمعية الاسرائيلية، بحيث جرى إخلاء نصف عدد سكان المستوطنات المحاذية للحدود اللبنانية بعد موجات الصواريخ والقصف المدفعي الذي استهدف مواقع عسكرية، لكنه أثار الهلع عند المستوطنين والقيادة العسكرية في آن.
وفي قراءة المتابعين لحركة «حزب الله» السياسية والعسكرية، فإنّه يُدرك تماماً حساسية وخطورة ودقّة الوضع اللبناني وبخاصة الجنوبي، وبأنّ وضع البلاد لا يحتمل تصعيداً عسكرياً واسعاً قد يصل الى حافة الحرب ولو المحدودة. وانّ الضغوط الغربية، ولا سيما الاميركية على حكومة لبنان «الضعيفة»، قد تؤثر الى حدّ ما على القرار الرسمي، وإن كانت لا تؤثر في قرار الحزب متى رأى انّ الوضع يحتمل اما تراجعاً تكتيكياً وإما تصعيداً مدروساً ولكن موجعاً. وفي كل الحالات، سيكون اي عمل عسكري مبنياً على قواعد الاشتباك التي تلت حرب 2006، ما لم تسع اسرائيل لتغييرها، وهو امر ليس وارداً الآن.
وإذا كان لبنان مهتماً جداً بالتنقيب الحاصل عن النفط والغاز الجاري الآن في الحقل 9 من المنطقة الاقتصادية اللبنانية الخالصة في البحر، ما يضيف سبباً آخر للحزب لعدم توسيع المواجهة، لكن الحزب يُدرك في الوقت ذاته انّ اسرائيل وأمامها وليس خلفها اميركا، مهتمتان ايضاً بهذا الموضوع، وبخاصة بعد وقف اسرائيل قبل ثلاثة ايام عمليات استخراج النفط والغاز في حقل «تمار»، وإعلان وزارة الطاقة في الكيان انّها «ستبحث عن مصادر وقود بديلة لتلبية احتياجاتها». ما يعني العمل بشكل حثيث على منع التصعيد الواسع.
في الموازاة، لا يمكن لـ»حزب الله» أن يمنع الفصائل الفلسطينية من استخدام الجنوب لمشاغلة اسرائيل وإرهاقها اكثر في المواجهة القائمة، وهو ليس معنياً اصلاً بهذا الموضوع المتروك للدولة اللبنانية وللإتصالات الديبلوماسية.
في المحصلة، فإنّ توسّع المواجهة في الجنوب او عدم توسّعها يعود الى امرين اساسيين: حصول اجتياح برّي اسرائيلي واسع وشامل لغزة وإضطرار الفصائل الفلسطينية للردّ بشكل عنيف من لبنان، وهو امر ما زال قيد البحث في اسرائيل نظراً لمخاطره، بحيث لن تستطيع تحمّل خسائر بشرية عسكرية اكثر في مواجهة برّية. او حصول تدخّل اميركي عسكري مباشر في الحرب، يضطر محور المقاومة لإشعال كل الساحات، ما يحوّل المعركة في غزة الى حرب اقليمية، وهو امر لا يستطيع احد المخاطرة في دخوله.
بعبارة مختصرة «اذا جنّت اسرائيل سيجنّ الأقليم كله معها». فمن يحتمل هذا الجنون؟