Site icon IMLebanon

مرارة الحبر بين الأنفاق والنفاق

 

 

يولد الإنسان نطفة من ترابٍ وإليها سيعود. لكن أن تبقيه ظروفه التاريخية المعقّدة لينمو أو يقضي حياته في التراب الذي لا يفارقه أبداً مثل صغار اجيال فلسطين لتتساوى عنده الحياة بالموت بل هي احيانا دون الموت، فتلك هي الظاهرة القاتلة المعجزة التي تجعل الكتابة فيه لعبةً عبثية سخيفة وقاسية.

أنا لا أبحث هنا عن قصص الفلاحين والحضارة الزراعية الطبيعية أو المدجّنة. أنا أنبش التراب هنا مع أطفال العالم بحثاً عن أطفال غزة من فلسطين. أبحث عن أجيال من تراب جروحهم أبداً باقية فوق جبين الإنسانية والأمم، أكثر ممّا هي مدفونة في «استراتيجيات الأنفاق». لنقل بالصوت العالي أن التراب إن انقلب سيخنق النار.

 

كان محمد الأسود المعروف بـ «جيفارا غزّة» من لاجئي حيفا، مسؤولاً للجبهة الشعبية في قطاع غزّة، وملاحقاً من قبل العدو «إسرائيل»، وهو أحد القادة الأوائل الذين التمسوا، منذ السبعينات وبعد ترسيم الحدود بين مصر وفلسطين المحتلة عقب اتفاقية كامب دايفيد «مهنة الموت» أو أسلوب النضال من تحت الأرض السابعة بحفر الأنفاق بهدف تجاوز الحصار «الإسرائيلي» والتهرّب من الملاحقات «الإسرائيلية» القاتلة الرهيبة. وعلى الرغم من أنّ فكرة الأنفاق سبق وخلوها  الثوّار الفيتناميون بجدارة لتحرير بلادهم من الاحتلال الأمريكي، عندما قام الجنرال الفيتنامي «جياب» بحفر أنفاق امتدّت مئات الكيلومترات من فيتنام الشمالية حتى الجنوبية منها لتصل إلى القواعد الأمريكية ومباغتتها، استعملها مقاتلو المقاومة، أيضاً، في جنوبي لبنان ليباغتوا منها «إسرائيل» في الـ 2006 مكتسبين خبرات هائلة في المجال بحيث ساعدوا سوريا إثر  تفكيكها وكشفها، وخصوصا عندما لجأ المقاتلون إلى حفرها في الغوطة الشرقية وجرستا وجوبر وحمص وحلب القديمة، ليتمكّنوا هناك من استهداف فندق الكارلتون وثكنة هنانو والقصر العدلي وغرفة الصناعة. باتت ظاهرة الأنفاق الغزّاوية نادرة ومتداولة وهي تقيم اليوم بمآسيها الوحشية في قلق مستقبل العالم الذي يضع يده فوق الأزرار النووية.

 

بدأ حفرها الأنفاق ممرات سريّة يتنقّل المقاومون الفارون من الملاحقة «الإسرائيلية» بينها بحيث تعجز قوّات الاحتلال عن معرفة أماكن وجودهم. وكان يعرف الحفّار «بالقطّاع» يتبعه الصغار لتعبئة الرمال، وحملها إلى الخارج «بالبابليات» الصغيرة الأحجام ثمّ بالبراميل المقصوصة لقاء مئة دولار لكلّ مترٍ يتم حفره.

تطورت ظاهرة حفر الأنفاق مع بدء الانتفاضة الأولى عام 1987 لتمتد من غزّة المحاصرة، على خط الحدود إلى سيناء وأرض مصر أي نحو خارج الأراضي الفلسطينية، بما يجعل النفق يربط بين منزلين متقابلين على جانبي الحدود. ومع قدوم السلطة الفلسطينية في عام 1994 وفي إطار تنسيقها الأمني مع قوات الاحتلال، قامت تلك القوات الاسرائيلية بتدمير آلاف المنازل المحاذية للشريط الحدودي، الأمر الذي عاد بقوة مع انتفاضة الأقصى مركزا على الدقّة في صناعة الأنفاق.كان يتطلّب حفر النفق على عمق ١٣ تحت الأرض شهرين، وكان يصل احيانا  إلى نحو ثلاثين، ويصل طولها إلى 1000 متر بعرض مترين. وصل حفر الأنفاق اليوم الى ٣٣ مترا تحت التراب. لطالما جاهرت «إسرائيل» بقلقها، بعد حرب غزّة وتدمير الكثير من الأنفاق، من أن يعيد الغزّاويون بناء الأنفاق أو توسيعها بالعرض، بما يسمح بتمرير أسلحة لم تكن تصل اليهم قبلاً.كانت تصل كلفة النفق إلى 60 ألف دولار، يتمّ دفع نصف الثمن لصاحب البيت المعتمد كبداية للنفق أو ذيله، كما تشير التسمية، ويدفع النصف الباقي للوازم الحفر المعروفة بـ «الأرنب» والحفارين الصغار والعمال والمهندسين. ويحقّق مالك النفق أرباحاً قد تصل إلى أكثر من خمسين ألف دولار شهرياً. ازدهرت عوالم الأنفاق من حيث بنائها وتجهيزها بالفتحات اللازمة بما يجعلها أقل عرضة للسهولة في الردم أو التهديم، حتى وصل عدد الأنفاق بين رفح الفلسطينية والمصرية قبل عام 2008 إلى نحو 1200 نفق لها أكثر من 870 مدخلاً في الأراضي المصرية. وكان يقوم كبار التجار على شراء الأنفاق بأسعارٍ قد تصل أحياناً إلى 150 ألف دولار. يغضّ البدو على الحدود وبعض الآمنين الطرف عن حركة الأنفاق، مدفوعين بالرشوة حيناً وبصلات النسب التي تربطهم مع عائلات الفلسطينيين أحياناً أخرى.ويعرف المرتشي ب «الأمين» بلغة الأنفاق، ويقتصر دوره على السهر على باب النفق أو «رأس الأفعى» باللغة عينها، مقابل حصص مالية وعينية لتأمين المتنقلين في هذه الأنفاق ذهاباً وإياباً عند الحفر أو عند نقل المواد الغذائية والبضائع والأسلحة والأدوية وقطع غيار السيارات والأجهزة الإلكترونية وحتّى المحروقات لسدّ حاجيات أهل غزّة التي غزتها موجات المحاصرة والموت.

 

تغيّرت المعطيات منذ عام 2000 وبدأ الفلسطينيون بنقل الأسلحة والذخائر التي كانت تتدفق، عبر الأنفاق، مع اشتداد الحصار الذي بلغ أعلى وتيرته مع انسحاب «إسرائيل» من القطاع صيف 2005 وسيطرة حماس عليه في يوليو/ تموز،2007 ووصلت إلى إدخال الصواريخ الإيرانية والروسية المضادة للطائرات، إضافة إلى أطنان المتفجرات الضرورية لإشعال الصواريخ التي كانت تنقل مفككة على شكل قطعٍ صغيرة، فتعيد المقاومة تركيبها، وأصبحت الأنفاق تستخدم لإدخال الفلسطينيين وغير الفلسطينيين الذين يرغبون في الوصول إلى القطاع.

وعلى الرغم من معرفة «إسرائيل» بالأنفاق، إلا أنها كانت، قبل انسحابها، أمام فكرتين لم تستطع تحقيقهما للتخلص من هذا الأسلوب النضالي العتيد:

إمّا بناء جدار يروح في عمق الأرض بين غزّة ومصر، أو إقامة سد مائي كبير تنهار فيه الأنفاق.ومع سيطرة «حماس» على غزّة، تنوعت طريقة التعاطي المصري مع ظاهرة الأنفاق، خصوصاً معبر رفح، بين أساليب الفتح والإقفال أو تدمير الأنفاق، وبدت كمادة ضغوط سياسية محرجة عربياً. ودوليا عبر دول العالم عرابي العدو الاسرائيلي.كان يمكن استخدامها في العلاقات بين غزّة ورام الله لطرش المآسي بالدم عبر فتح الحوارات أو حتى المصالحات وكذلك في انقطاعاته.

تلك هي هي الصورة الأولى في مأساة العصور.

أمّا الصور الثانية التي صاحبت وتصاحب مجازر غزة فهي اجيال الأطفال من الفلسطينيين المقيمين في التراب أو التراب السياسي الباسم  الدلي الذي يطحن التراب ويحرق الأجيال الترابية الصغيرة ليحصر ممثلو الدول بياقاتهم المنشاة وطائراتهم المكيفة و…إنّ أفضل ما يجسّد ملامح هذه الصورة العامّة المجبولة بما يتجاوز الحبر والألسنة والتي تتكامل مع الصورة الأولى المطحونة بالقصف والضحايا هو أن الموت في فلسطين صار جزءاً حميماً من حياة الفلسطينيين وسقطة لكل ما هو دولي وامني واممي في هذا الكون المفرغ من مضامينه الانسانية.، إمّا أن تموت قصفاً أو حصاراً أو بانتظار لقمة أو دواءً لن يصل ولن يأتي، أو أن تموت صامتاً كحياتك الترابية، مدفوناً قبل أن تدفن داخل الأنفاق بالقصف وبالانهيارات في الحفر أو بالغازات السامة أو بالتفجيرات الإسرائيلية داخل الأرض أو بالغزو المنتظر ولا تجد من ينوح عليك سوى التراب المطبق على حياتك وجثتك، وأنت لن تجد كفناً لك سوى التراب، فانت هناك إذن تولد وتموت في التراب.

صور «الموتى» يقارعون الموت وجثث الأطفال والنساء والشيوخ وفلسطين الدماء والأشلاء والعبثية والإنحياز العالمي المستمر ل «إسرائيل» تملأ العيون العربية لا القبور خلف الشاشات واليوتيوب والـ I Pad وأجهزة الهواتف الذكية.

ماذا بعد؟

للقارئ العربي وللأنظمة العربية والإقليمية والعالمية أن يكملوا المقال عنّي حتّى أتمكّن من مسح دمعتي…حزينا في انفاق العرب والعالم والمؤسسات الدولية وفرحا نعم شديد الفرح.

لأن التاريخ يخطو اليوم بانتظار أن تشرق الشمس وفوق يدها مستقبل يخرج من الأنفاق لا من نفاق الدول والمؤسسات والقوانين الدولية الكبرى والصغرى التي تمتهن مهنة طمس التاريخ والحقوق والأجيال.